السيد موسى يكتب: سنة أولى جرح

الاحد 09 سبتمبر 2018 | 09:12 مساءً
كتب : السيد موسى

"بلاش تقلبوا المواجع".. حينما تفوق من صدمة أنك لن ترى شخصًا كان عزيز عليك، تود أن لو تخبر العالم أجمع بتفاصيله، ضحكته  وحزنه عصبيته، وهتلاقي نفسك عاوز الكل يسمعك ويسكتوا كمان ما يتكلموش وإنت بتحكي عنه، وشوية بتضحك ومرة تعيط ولما تيجي حاجة تفكر بموقف ليه سواء ضحكة أو حزن، تأكد إن دمعتك هتفر منك ومش هتقدر تمنعها، وكتير هتحس بالحنين وتروح له في المكان اللي كان بيجمعكم، على أساس إنه عايش إلا أنك تنصدم بعدم وجوده، "وتبص تلاقي نفسك إنت اللي عايش بس في وهم إن اللي راح هيرجع، أو إنك مش مصدق إنه مات".

 

"نحن لا ننسى أبدًا، ولكن نغمض أعيننا قليلًا لكي نستطيع أن نعيش"، النسيان أكبر وهم إحنا بنعيشه، خصوصًا إذا كان الجرح والأشخاص اللي عاوزين نتناسى ألم فراقهم، وأنهم ما عادوا موجودين بعدما كانوا يرافقونا ويقاسمونا الأكل والشرب، يفرحون لفرحتنا ويبكون لحزننا، أولئك الأشخاص حينما نخسرهم ويرحلون تظلم الدنيا في أعين قلوبنا، ويضيق بنا الوجود، حينما نعلم أنهم لن يعود يومًا ما، نعم أنا مجروح وجراحي كان مصحوبًا بنزيف من الآلم.

 

هناك من تخلد ذكراهم بعد رحيلهم، فبوجودهم بيننا نكون مطمأنين، وبموتهم وبعدهم عننا يخلدون في قلوبنا وتستمرذكراهم بعد موتهم، وأنا لي "خالدة غالية" لا أنسى يوم رحيلها بتفاصيله، تنميت أن لو كان كوبس وسأفوق منه إلا أنها حقيقة، و"أنا جاي من القاهرة على أسوأ خبر سمعته، وأنا داخل الشارع والناس ملمومة كتير وبيبصوا للي داخل شارد ومش معاهم".

 

"تعالى سلم على ستك.. قومي صلي وادعيلها.. يله أطلع برة عشان هنغسل.. هاتوا الكفن يا جماعة.. النعش.. وحده.. اقفل القبر"، الجمل اللي أنا فاكرها من اليوم ده، "، كمان فاكر وأنا بكلمها ما بتردش، لمسة إيدها المتلجة، ووشها اللي منور وأنا ببوسه حسيت براحة وطمأنينة غير طبيعية، وضحكتها اللي كانت منورة، وجمالها شكلها رجع حوالي 40 سنة"، اليوم صعب واللي الأصعب لما تكون بعيد وتسمع خبر زي ده، "كفاية كل لما تسافر تفتكر أصعب يوم سفر هيجي في حياتك، وربنا ما يورهولي في حد تاني". 

  

التاسع من سبتمبر عام 2017، ومع اقتراب عقارب الساعة من الثامنة أي تقريبًا في نفس لوقت الذي اكتب فيه الآن، بينما كنت منشغل في العمل إلا أن خاطري لما يكن معي، "لماذا لم تتصل بي والدتي حتى الآن؟"، كعادتها تكلمني فور إفاقتي من النوم، وبالتحديد في الخامسة، ثمة شيء شغلها عني، وأنا اعمل أنه لا يمنعها من تلك المكالمة اليومية سوى الشديد القوي.

 

الجسد متواجد في القاهرة إلا  أن الروح في الشرقية التي ودّعت أهلها منذ يومين فقط "وكانوا بخير جميعًا، حتى ستى جليسة الفراش كنت معها وكان بخير وفي الدرجة الطبيعة لمرضها"، العقل لم يهدأ والأجواء صامتة، ولا يشيء يلعو فوق أصوات أنفاسي التي كانت مرتفعة بعض الشيء والتي كانت تخرج بصعوبة، وفجأة قطع تلك الهدوء صوت جرس التليفون، فنهضت من على المكتب وأسرعت في الرد، "ألو.. أيه يا معلم البقاء لله ستك ماتت.. وانزل الوقتي!!".

 

حينها قطعت الاتصال وانجرفت الدموع من عنيني، وتوقف النبض من قلبي، وتباطئ النفس وكان يخرج بالكاد، وشعرت وكأن شخصًا وضع لوح من الثلج على جسدي، ولم أخبر أحدًا بشيء إلا أنني سحبت الهاتف والمحفظة وأسرعت وأنا شبه فاقد الوعي نحو المصعد، إلا أن أحدهم لمحني فهم نحوي فإذ به يجدني ملقى على الأرض أمام "الأسانسير" فاقد الوعي، لم أشرع بنفسي إلا وأنا ملقى على وسادة وعددًا من أصدقائي في العمل ملتفون حولي، والجميع يتساءل "ماذا حدث وما هذه المكالمة التي فعلته به ذلك، وأحدهم يرد هو كان مش مظبوط من ساعة ما جه".

 

أسير على قدمي بالعقل الباطني الذي فطن أني قاصد الشرقية، وساعدني في ذلك أحد أصدقائي حين ذاك، أوصلني إلى عربات المحافظة، وكان يعتزم أن لا يتركني، إلا أنني رفضت ذلك، خاصة أنه وصلني حتى "عربيات ههيا"، فأنا لن أسير بعدها كثيرًا، وتركني وأنا شاردًا لا أعي لما يحدث حولي، وقدمي تحملني بالكاد في رحلة لم اتذكر منها أي شيء، سوى أنها كانت مليئة بالدموع.

 

 

هنا الشرقية، مع دخولي تلك الشارع الصغير، الذي كان ممتلئ على غير عادته بالرجال والهدوء يسوده تمامًا والصمت ينتابه رغم كثرة العدد، وكانت الساعة تقترب من الحادية عشر مساءً، الأنظار اتجهت نحوي والنار في جسدي وقدمي هي التي تسوقني نحو تلك البوابة السوداء الصغيرة والدموع تنهال من عيني ولا اتمالك نفسي، وإذ بمن يعيق مسيرتي ويعانقني «البقاء لله وحمدلي على سلامتك».

 

رغم كل هذا لم أصدق أنها رحلت وأنني لم أعد أراها!!

شخصٌ آخر قطع مسيرتي، وأجلسني بجواره ولا أعي ما يقوله إلا أني اعلم أنه كان يواسيني، ودعاني أحدهم للدخول إلى غرفة لها عندي من المكانة ما لها، ولم أدخلها منذ رحيلها سوى مرات تعد على كف اليد، فهي في ذهني بجميع جدرانها الأربعة والصورة المعلقة في الوجه تستقبل الضيوف، وتزينها جدتي التي تملأها بأنفاسها "فهي لم تفارقها منذ 3 سنوات تقريبًا"، تلك الغرفة لن أقبلها إلا بتلك الصورة. 

 

بالفعل دخلت وجسمي كان يرتعش بأكمله وقلبي يرتجف وأشعر ببرد شديد، وأسير بخطى متباطئة وكأنني عجوز بلغ من الكبر عتيا والدموع تنهمر من عنيني والحزن مخيم على المكان كله ولا أكون مبالغ عندما أقول أن الجدران نفسها كانت حزينة لأن رفيقتهم ستغادر، وإذ بي أجد الجميع يلتفون حول جثمانها الطاهر الذي لا يظهر منه شيئا، وإذا بمن تعانقني والصوت يخرج منها بالكاد «مين اللي جابك يا حبيبي؟».

 

سمعت تلك الصوت وجدت نفسي ملقى في أحضان صاحبته، وكلانا يبكي والقلوب تصرخ ونار الحزن تتكالب علينا وهي تردد على مسامعي "بس ستك كانت تعبانة وارتاح، كانت بتسأل عليك النهارده وسيبالك سلام وبتقول خد بالك من نفسك وشغلك وكليتك".

 

ظللت في حضنها وكأنني طفل تائه عن والدته وعاد بعد عامين، حتى لامستني يد بيد أحدهن وأخذتني خارج الغرفة، "بس.. ستك كانت تعبانة وارتاحت.. مش أنت كنت عاوزها ترتاح! هي ارتاحت قوم وما تعملش في نفسك كده صلي وادعيلها"، فعلت.. ثم خرجت إلى الشارع الممتلئ بالرجال وأنا لا أدري من يلقي عليا السلام، بعد فترة بسيطة استعدت وعيي وكان الحديث لابن خالتي والذي اعتبره في مقام أخي الكبير "تعالى سلم على ستك!!".

 

اصطحبني معه إلى تلك الحجرة التي تفوح منها رائحة الكافور، والمزينة بجثمانها الطاهرة ورفعوا الغطاء من على وجهها، فإذا بي أجد نور ساطع من ذلك الوجه الذي تحمل الكثير فربى الأيتام ومرض من أجلهم، والابتسامة تملؤه وشعرت ويكأنها تحدثني ودار بيني وبينها حوار لا يغيب من بالي كلما تذكرت تلك المشهد والذي لم أبوح به لأحد، وكنت أتمالك أعصابي بأعجوبة، وحينما هزمني البكاء وانهمرت الدموع غطوا وجهها وأخذوني لخارج الغرفة.

 

وظللت في هذه الحالة حتى صباح اليوم التالي حيث يوم دفنها، وعلى الرغم من ذهاب عتمة الليل، إلا أن الظلام لم يغادر عيني، وألقيت عليها نظرة أخيرة قبل أن يغسلوا جسدها "شعور سخيف لما حد يخرجك وإنت قاعد مع شخص عزيز عليك لآخر مرة" ولك أن تتخيل، كما أني كنت لم أراها منذ يومين، إلا أني ودعتها مع سماع كلمة "هاتوا الكفن"، حسيت وقتها إن فيه حد بيشق في قلبي.

 

ربما لم تطول جلستي معها، ولكنهم رأوا أني أطلت في نظراتي وبكائي لذا أخرجوني، وحينما انتهوا من تكفينها وتجهيزها لزفافها إلى رحلة اللاعودة وهم يخرجونها من تلك الغرفة الصديقة، خرجت معها روحي، وتقريبًا لم تعد لي حتى الآن، فأصبحت جسدًا بلا روح، ولم أكن اتخيل أنني اقدر العيش من غير روح إلا أنه حدث وعشت جسدًا أبحث عن روحي، ولم أجدها بعد.

 

وتحولت حياتي إلى اللون الأسمر، فأنا مفتقد لدعائها وجلستها وضحكتها وحرمت منها كثيرًا، كان يكفيني فقط وجودها!!، بانتهائها انتهى كل ما هو جميل، كانت وحدها تعلم كل أسراري التي أفضل الاحتفاظ بها، ومنذ ذلك الوقت والجميع يعلم سري وأنا في حالة غريبة قلما تحدث لي، غابت شمسي فهل من لقاء؟.

 

لمّا خذلني العالم حتى من كانوا يقولون أنهم أجبابك خذلوني ونسوا حبك ليّ، اشعر كل يوم وكأنك تودعيني اليوم، لما كل هذا الأنين؟، لقد تعبت وأصبحت وحيدًا وما عادا لي أسرارًا بعدما دُفنتي بآخر سر لي.. الآن الجميع يعلم عني كل شيء، ويلعبون بمشاعري والإنسانية التي علمتينا إيها والمبادئ التي توارثناها عنكي، بعضهم يبحث عن سبب تغييري وآلامي.. ألا يرون أن الجرح لم يُضم.

 

النفس تأبى رحيلك، ولكنها لا تستحق بقائك، كانت صعبة وقاسية، واعلم إن الله ريحكي مما كنتي فيه، إلا أن الفراق صعب، فلم يخطر ببالنا ولم يتبادر إلى مخيلاتنا أننا لن نراكي ثانية، لم ولن انساكي فأنتي قبلتي في صلاتي، ولم نترككِ نذهب إليكي كثيرًا، نشكوا إليكي، فقلوبنا مشردة منذ رحيلك، وها أنا اليوم من أمام قبرك أكتب لكي، "لو كنت اعلم أن أخر لقاء بيينا وأنا أودعك وباقي على موعد سفري ساعة، وأنتي تقولين: (ما أنت قاعد، خليك شوية، لسه بدري، مش لازم تسافر)، ما تركتك في تلك اليوم الذي خدعتيني فيه بصمودك، وتمنيت أن لو ضممتكي بين ذراعي، واستثقيت من حنانكي ما يكفيني لمواجهة البشر بعد رحيلك، ندمت كثيرًا لأني لم أسمع لكلامك وأجلس معكي (وبلاش اسافر)، لن أنساكي ولو لثانية وعُذّبت برحيلك.. إلى رحمة الله أيتها الخالدة الغالية في قلبي، على روحك الذكية سلام مننا، منذ رحيلك وأنا لا أتذكر أني مريت بيوم سعيد، والأحزان توالت وكل يوم يزيد سوء عن سابقه، في أول سنة جرح".

اقرأ أيضا