«الجوع كافر».. قافلة طعامها لحوم المسافرين !‏

الاربعاء 30 سبتمبر 2015 | 09:38 مساءً
كتب : بلدنا اليوم

«الجوع كافر».. قول مأثور يضرب أحيانا لتبرير تصرفات الجائع الذي يقدم على أي عمل لملء بطنه بالطعام ‏حتى لو كان ما يأكله مذموما من قبل الآخرين، فحتى الديانات المختلفة تبيح لأتباعها أكل المحرمات إذا كان في ‏ذلك حفظا لأرواحهم من الهلاك، وأحد المحرمات الذي تتفق عليه جميع الديانات والقوانين والأخلاق هو لحم ‏البشر، لكن الناس استباحوه منذ القدم عند المجاعات والكوارث والحصارات الحربية، خاصة عندما لا يتبقى ‏شيء يؤكل سواه، و قصتنا اليوم هي حول قافلة بائسة حاصرتها الثلوج في الجبال فلم يعد أمام ركابها سوى ‏التهام لحوم زملائهم , قصة رحلة مخيفة اقترع مسافروها فيما بينهم حول أيهم يجب إن يذبح و يؤكل!!.‏لقرون مديدة , كانت السفن الأوربية المتخمة بأعداد كبيرة من المهاجرين البيض تمخر عباب المحيط الأطلسي لتقذف بحمولتها البشرية على الساحل الشرقي للولايات المتحدة , كان القادمين الجدد أناس من شتى المشارب و الأعراق أنهكتهم الحروب و الثورات في القارة العجوز لذلك يمموا وجوههم صوب العالم الجديد بحثا عن حياة أفضل , و عاما تلو أخر , تكدس الملايين من هؤلاء الأوربيون الحالمون عند الساحل الشرقي للولايات المتحدة حتى ازدحمت بهم المدن و فاضت بهم الطرق فعمت البطالة و انتشرت الفاقة و تضاءلت الأعمال و فرص الثراء. وفيما كانت تلك المدن و الولايات الشرقية تضيق بسكانها يوما بعد أخر , كانت الأجزاء الغربية للولايات المتحدة أرضا بكرا جديدة (1) لم تطأ أقدام الإنسان اغلب أرجائها , لهذا أخذت قوافل المهاجرين الفارين من زحمة الشرق تتسابق للوصول إليها , و قد كانت للدعاية الكاذبة التي روج لها سماسرة النصب و الاحتيال دور بارز و فعال في دفع وتحفيز الكثير من الرعاع و السذج لهذه الهجرة الجماعية بعد أن صوروا تلك الأراضي البعيدة القاحلة على أنها تربة غنية تزخر بالمعادن الثمينة و تحفل بمناجم الذهب التي تنتظر معاول و أزاميل القادمين الجدد لتنثر ثرواتها الخرافية فوق رؤوسهم المتخمة بالأوهام.في 8 مايو عام 1846 غادرت بلدة سبرنغ فيلد الأمريكية قافلة صغيرة مكونة من تسع عربات خشبية تجرها الأبقار , توزع عليها و حولها 33 مسافرا ما بين رجل و طفل و امرأة هم مجموع عائلات المزارع جورج دونير ذو الأعوام الستة و الخمسون و شقيقه جاكوب و جارهم رجل الأعمال جيمس ريد. كان هؤلاء الرجال قد عقدوا العزم على المضي مع عائلاتهم و كل ما يملكون في هجرة طويلة و شاقة تمتد لمسافة 2500 ميل نحو ولاية كاليفورنيا في أقصى الغرب الأمريكي , و قد خططوا للوصول إلى غايتهم تلك خلال أربعة أشهر فقط , على ان تبدأ الرحلة فور توقف هطول الأمطار الربيعية و تنتهي قبل حلول الشتاء. كان التوقيت عاملا مهما في نجاح رحلتهم لأن أي تأخير كان يعني ان الشتاء سيدركهم و تحاصرهم الثلوج وسط الوديان و الجبال النائية. كانوا يعلمون أن هناك الكثير من الأنهار و الفيافي القاحلة و الجبال الوعرة التي عليهم تجازوها بسلام , وهناك أيضا خطر قطاع الطرق المتربصين بالقوافل من اجل سلبها و نهبها , و هجمات الهنود الحمر الناقمين بسبب استيلاء المستوطنين البيض على أراضيهم. لكن الأمر الجيد و المشجع بالنسبة لجورج دونير و رفاقه هو إدراكهم بأنهم لن يكونوا وحدهم في رحلتهم الطويلة تلك , فقوافل المهاجرين كانت تتدفق كالسيل العارم تحمل معها ألاف البشر من شتى أنحاء البلاد نحو غاية واحدة , ولم تلبث قافلة دونير الصغيرة أن ذابت في ذلك السيل المتدفق بلا هوادة فانضوت تحت راية قافلة اكبر يقودها رجل يدعى وليم راسل.لمدة شهرين سارت قافلة راسل بمحاذاة خط سكة حديد قطار كاليفورنيا حتى وصلت إلى نهر ليتل ساندي حيث توقفت وخيمت عنده لعدة أيام , هناك اتخذ جورج دونير و رفاقه قرارهم الخاطئ و المأساوي بالانفصال عن قافلة راسل الكبيرة و المضي منفردين عبر طريق قديم يدعى هاستنغ كتاوف ظنا منهم بأنهم سيختصرون المسافة المتبقية من سفرتهم , وقد انضم إليهم في مغامرتهم الطائشة تلك بعض المسافرين من القوافل الأخرى فأصبح عددهم 87 مسافرا توزعوا على 23 عربة انتظمت في قافلة جديدة بقيادة جورج دونير.في 31 أغسطس 1846 انطلقت القافلة الجديدة عبر المعبر القديم , كان مسيرها خلال الأسبوع الأول سريعا و مشجعا , لكن المتاعب لم تلبث أن أدركتها أثناء اجتياز صحراء الملح الكبرى و الجبال المحيطة بها فنفقت بعض الأبقار و الخيول و لحقت أضرار كبيرة بعدد من العربات , و تعرضت القافلة لهجوم الهنود الحمر , ولفظ احد المسافرين أنفاسه خلال الطريق , و لم تصل القافلة إلى نيفادا إلا بشق الأنفس متأخرة ثلاثة أسابيع عن موعدها المقرر فتوترت أعصاب الرجال واخذوا يتبادلون اللوم و العتب. و قتل احد المسافرين على يد جيمس ريد على اثر مشاجرة عنيفة نشبت بينهما فعوقب السيد ريد بطرده من القافلة و إبعاده عن عائلته.في نهاية شهر أكتوبر وصلت القافلة إلى سلسلة جبال سييرا نيفادا الممتدة على طول حدود ولاية كاليفورنيا , كان جورج دونير و رفاقه يعلمون بأنهم تأخروا كثيرا في الوصول إلى هذه النقطة من رحلتهم لذلك ساروا بأقصى سرعة على أمل أن يجتازوا الجبال الشاهقة قبل أن يدركهم الشتاء , لكن الحظ خذلهم هذه المرة , فعلى مسافة يوم واحد فقط من المعبر المؤدي للخروج من المرتفعات اخذ الثلج يتساقط بغزارة.خيم الخوف على جورج دونير و هو يراقب حبات الثلج البيضاء و هي تتهادى ببطء نحو الأرض , لقد أدرك جيدا بأن رحلتهم تحولت الآن إلى سباق محموم مع الموت لذلك حث المسافرين على مواصلة السير , لكن حين حل المساء كان التعب و الإعياء قد نال من الجميع , والتمست النساء المنهكات من السيد دونير أن يخيموا قرب بحيرة - تعرف اليوم بأسم بحيرة دونير - على أمل أن ينقطع الثلج أثناء الليل , فوافق الرجل على مضض و هو يتوقع الأسوأ , و قد صدق حدسه لأن الثلج هطل طول الليل , و حين طلع الصباح كانت كتلة ثلجية هائلة وصل ارتفاعها إلى عشرين قدما قد سدت المعبر.حوصرت قافلة دونير تماما , أغلق الثلج كل سبلها فما عادت تستطيع التقدم ولا العودة , و أيقن المسافرون بأنهم سيمضون الشتاء في هذه البقعة النائية و المنعزلة من الأرض , و قد أدركوا حجم مأزقهم المميت بعد أن أخذت مؤنة القافلة من الطعام تتقلص بالتدريج حتى نفذت تماما فعمد الرجال إلى ذبح حيوانات القافلة من أبقار و خيول حتى أتوا عليها جميعا خلال فترة قصيرة , و حين لم يعد هناك أي طعام حاول بعض الرجال صيد الحيوانات البرية لكن ما اقتنصوه من سناجب و عصافير صغيرة لم يكن ليغني عن جوع أكثر من ثمانين شخصا نصفهم من النساء و الأطفال. في النهاية اضطر المحاصرون في القافلة إلى التهام لحاء الأشجار و أغصانها و قام بعضهم بسلق جلود الحيوانات الميتة و تناول حسائها.في غمرة اليأس الذي خيم على القافلة , قرر بعض المسافرين الانطلاق في رحلة ماراثونية من اجل الحصول على المساعدة و إحضار فرق الإنقاذ. كانت المهمة صعبة لأن اقرب منطقة مأهولة بالسكان كانت عبارة عن حصن جبلي يقع على بعد 160 ميلا , وقطع هذه المسافة من الجبال الوعرة الباردة المغطاة بالثلوج بدون مؤنة كافية من الطعام كانت في نظر الكثيرين رديفا للمستحيل. لكن الرجال العشرة – ثمانية من البيض و اثنان من الهنود الحمر - و النساء الخمسة الذين تكونت منهم مجموعة النجاة كانوا قد عقدوا العزم على المضي في رحلتهم أيا ما كانت النتائج. كانوا يدركون ان فرصة وصولهم إلى هدفهم و النجاة من الموت جوعا و بردا تبدو ضئيلة للغاية لذلك اختاروا لأنفسهم اسما يدل على صعوبة مهمتهم و هو "الأمل البائس" , وانطلقوا في رحلتهم تلك , محملين بالقليل من الطعام و بعض البنادق القديمة و أحذية للمشي على الثلج صنعوها بأنفسهم من عظام و جلود الحيوانات الميتة.سار أفراد "الأمل البائس" تسعة أيام وسط الثلوج قبل أن يدركوا بأنهم يسيرون في حلقة مفرغة و أنهم قد أضاعوا سبيلهم تماما وسط هذا البساط الأبيض اللامتناهي الذي يحيط بهم من كل جانب , كانت مؤنتهم من الطعام قد نفذت منذ ثلاثة أيام فاخذ الجوع ينهش أحشائهم وأصابهم الضعف و الإعياء و راحوا يتعثرون في خطاهم ما بين منكب على وجهه لا يقوى على القيام و متكأ على جذع شجرة يقاوم السقوط , وفي لجة الموت المحدق بهم من كل صوب و حدب , راح أولئك البائسين يفكرون في طريقة للنجاة فتوصلوا إلى حل عجيب هو اقرب إلى تلك الحلول التي نسمع عنها في الخرافات و الأساطير , فحين أرخى الظلام سدله ذلك المساء تحلق أولئك المسافرون الجائعون و المنهكون حول نارهم الموقدة في العراء و اتفقوا على أن يقترعوا فيما بينهم بأعواد القش (2) و الخاسر يجب أن يذبح كالشاة و يؤكل من قبل الفائزين!. و قد كان باتريك دولان , 35 عاما , هو سيء الحظ الذي سحب القشة الخاسرة في قرعة الموت تلك , ولك عزيزي القارئ أن تتخيل الرعب الذي اعتصر قلب الرجل المسكين وهو يطالع وجوه و عيون رفاقه المحدقة به كأنها ذئاب تتأهب لنهش لحم فريستها. ما حدث بعد ذلك هو أمر قد لا يعلم حقيقته سوى الله تعالى , فالناجين من مجموعة "الأمل البائس" قالوا فيما بعد ان أيا منهم لم يطاوعه قلبه على قتل السيد دولان و انهم لم يمسوه بأذى تلك الليلة , إلا إن الرعب و الوسواس الذي أصاب الرجل و خوفه من زملائه دفعه إلى الهرب و الاختباء وحيدا داخل الغابة , و في صباح اليوم التالي عثر أفراد المجموعة على جثته المتجمدة متكورة عند جذع إحدى الأشجار فعاجلوها بسكاكينهم تقطيعا و سلخا ثم أقاموا "حفلة" شواء صغيرة التهموا فيها جزءا من لحم الجثة و احتفظوا بالباقي لقادم الأيام.طبعا هناك شكوك عديدة تلقي بظلالها القاتمة على موت أو مقتل السيد دولان , فأغلب الناس يعتقدون أن رواية هروبه و موته متجمدا في الغابة ما هي إلا قصة مختلقة من قبل زملائه الذي قاموا على الأرجح بقتله بأنفسهم تلك الليلة لكنهم أنكروا ذلك فيما بعد بسبب بشاعة الجريمة و الخوف من أن يحاكموا و يعدموا شنقا بتهمة القتل.كن رحلة الموت و الرعب لا تنتهي هنا , ففي ذلك اليوم الذي قتل فيها السيد دولان رفض الهنديان الأحمران المرافقان للمجموعة تناول لحمه , و الظاهر أن تلك الوليمة البشرية قد أثارت اشمئزاز و خوف الرجلين فافترقا عن الآخرين و تواريا بين أشجار الغابة. ثم مضت تسعة أيام نفذ خلالها لحم السيد دولان و نال الجوع و الإعياء من أفراد مجموعة "الأمل البائس" مرة أخرى حتى اشرفوا على الهلاك , لكن القدر جاد عليهم بالمزيد من اللحم البشري! فبينما إحدى سيدات المجموعة تمشي بمفردها بين الأشجار في الغابة , ربما لقضاء حاجة , عثرت فجأة على الهنديان الأحمران اللذان كانا قد هربا في الأسبوع المنصرم و هما يلفظان أنفاسهما بين الثلوج , و زعم الناجين من المجموعة ان الهنديان كانا يحتضران بسبب الجوع و البرد و أنهما لم يكونا ليعيشا لأكثر من ساعتين , لذلك وضعوا رصاصتين في رأس كل منهما , ربما بداعي العطف و الرحمة!! , ثم قطعت أجسادهم النحيلة على عجل و سرعان ما عبقت أجواء الغابة النائية برائحة الشواء مرة أخرى.مثل قصة موت السيد دولان فأن حكاية فرار الهنديان الأحمران إلى الغابة و العثور عليهما يحتضران بعد تسعة أيام تبدو ساذجة جدا و لا تنطلي على احد , و اغلب الظن ان الرجلين قتلا و تم التهامهما لأنهما كانا الطرف الأضعف بين أفراد مجموعة "الامل البائس" , فالهنود الحمر في ذلك الزمان لم يكونوا يتمتعون بأي حقوق و ما كان لرجل ابيض أن يحاكم بتهمة قتل هندي احمر.في 18 يناير بعد حوالي الشهر على انطلاقها , وصلت مجموعة "الأمل البائس" أخيرا إلى إحدى المناطق المأهولة بالسكان , كان المتبقين على قيد الحياة هم سبعة فقط , والطريف في الأمر هو أن من بين الرجال العشرة الذين انطلقوا مع المجموعة في البداية اثنان فقط بقوا على قيد الحياة أما النساء الخمسة فلم تمت أي واحدة منهن , و طبعا ما كانت النساء لتنجو لولا أنهن التهمن لحوم الرجال المساكين!! , و قد اعترف الناجون صراحة فيما بعد بأنهم التهموا لحوم زملائهم الموتى اضطرارا لكي يبقوا على قيد الحياة و لكنهم أنكروا أن يكونوا قد قتلوا أي منهم زاعمين بأن الرجال الثمانية (احدهم صبي في الثانية عشر) ماتوا جميعا بسبب البرد و الجوع و المرض.بعد وصول مجموعة "الامل البائس" توجهت أربعة قوافل إنقاذ نحو قافلة دونير المحاصرة في الجبال , لم تكن عمليات الإنقاذ سهلة بسبب بدائية الوسائل المتبعة آنذاك و وعورة المنطقة و خطورتها. الوجبة الأولى من المنقذين صدموا لما شاهدوه داخل المخيم , كان من تبقى على قيد الحياة من المحاصرين أشبه بأشباح الموتى , وجوههم شاحبة و عيونهم غائرة ذابت أجسادهم و تحولت إلى هياكل عظمية لا يميزها عن جثث الموتى سوى أنفاسها المضطربة. في عربات القافلة و حولها تناثرت جثث البشر و الحيوانات , بعض الجثث البشرية كانت مشوهة انتزعت منها الأفخاذ و الأوراك , وبدا جليا أن الناجين مارسوا أكل لحوم الموتى.كان عدد الناجين 47 شخصا من ضمنهم زوجة جيمس ريد و أطفاله الخمسة أما الموتى فكانوا 39 من ضمنهم جورج دونير نفسه الذي فارق الحياة بسبب تعفن جراح أصابت يده و كذلك زوجته تامزن التي كانت جثتها قد تعرضت للأكل من قبل شخص يدعى لويس كيسبيرغ , و لويس هذا هو أخر شخص غادر المخيم برفقة قافلة الإنقاذ الرابعة و قد تعرض بعد نجاته إلى التهديد من قبل عدة أشخاص لأنه كان قد اكل من جثث ذويهم و أقربائهم في المخيم.اليوم هناك نصب تذكاري قرب بحيرة دونير يخلد ذكرى أولئك المهاجرين الذين قضوا نحبهم في مخيم الموت. صحيح أن قصتهم ترافقت مع الكثير من الفظائع , و صحيح أيضا أن رحلة أولئك الرجال و النسوة الذين انطلقوا في رحلة مضنية عبر الثلوج للحصول على النجدة صاحبتها العديد من الحوادث المثيرة للاشمئزاز , لكن يجب أن نتذكر في النهاية بأن تلك البشاعات ارتكبت اضطرارا و أن أولئك الناس البسطاء لم يكونوا من عشاق اللحم البشري و لا تخيلوا أن يتناولوه في يوم من الأيام , لكن كما أسلفنا في بداية المقال فأن الجوع كافر و الحياة عزيزة على نفوس معظم الناس - لا يغرنك لعن بعض الناس إياها في زمان الراحة و الاطمئنان فذات أولئك اللاعنون تراهم يتمسكون بها حتى الرمق الأخير و يبذلون دونها الغالي و النفيس في أوقات الشدة - و ربما لو تعرضنا نحن أيضا إلى نفس الظروف التي أحاطت بالمحاصرين في قافلة دونير لكنا سنتناول ما تناولوه .

اقرأ أيضا