يسترزق من النار والحديد.. الأب المضطر يرفض التوريث: 'اللي أقوى مني راحوا هدر'

الثلاثاء 30 يناير 2018 | 08:48 مساءً
كتب : بلدنا اليوم

"مكان يتسع لمن فيه بالكاد، والنيران تشتعل بأحد أركانه، بينما أيادٍ ترتفع لأعلى وتهبط لأسفل حاملة المطارق التي تجلب الرزق، مع أصواتٍ متناغمة وكأنها سيمفونية موسيقية، والدخان ينبعث من الفحم مغيمًا الأجواء، والهواء خالي من الأكسجين".. هكذا هو الحال في ورشة المعلم إبراهيم للحدادة. وعلى الرغم من تلك التحديات التي تواجه المعلم إبراهيم، بالإضافة إلى ظهور الأباطرة والتجار الذين يستوردون المنتجات من الدول الصناعية، ويسيطرون على الأسواق، إلا أنهم ظلوا صامدين في هذه الحرب الوجودية، والتي تسلحوا فيها بالجودة والتراث، ومازالوا محتفظين بمهنة أجدادهم التي تربط حاضرهم بماضيهم وحالهم بمستقبلهم، أولئك الذين تورثوها أبًا عن جد، وهم الآن يسلمون العهدة لأولادهم، بغض النظر عن المتعة أو حبهم للمهنة من عدمه.يجلس بوجهه مليء بالحزن والأسى وعينان تحكي آلم وألم قريب من هاتين الحفرتين اللتين يتوسطهما السندان، المعلم إبراهيم، والذي يعمل بالحدادة منذ طفولته، والذي حرمته ظروف الحياة من التعليم والالتحاق بالمدارس منذ نعومة أظافره، بعدما أجبر على امتهان حرفة أجداده وأبائه لجلب "لقمة العيش"، فأصبحت حرفته اللعب بالحديد والنار."رضيوا بالتعب والتعب مش راضي بيهم".. بالرغم من أنهم تحملوا كل هذه الصعوبات من أجل لقمة العيش، إلا أن هناك العديد من المشاكل التي تواجههم وتهدد مصدر رزقهم، وأبرزها ارتفاع أسعار الحديد والفحم، بالإضافة إلى أنهم لا يجدون من يقدر تعبهم فحينما يذهبون لتوريد البضاعة لا يحصلون على شيء بسيط بمقدار العرق الذي ينزف من مسامهم في عز الشتاء.كما أن الكثيرين منهم لا يجدون متعة في مهنتهم، إلا أنها مجرد مهنة فرضت عليهم، بحكم أنهم من أسرة "الحدادين"، والمسئول عن تحمل مشقتها وتعبها من أجل توصيلها للأجيال القادمة، فأصبحوا غير قادرين على العمل في مهنة أخرى، وهذا هو حال المعلم إبراهيم وإخوته الثالثة، حيث تعمل الأسرة بأكملها في هذه المهنة، ولا يوجد لديهم مجال للعمل بمهن أخرى.لذا يقوم المعلم إبراهيم كل يوم بتحضير الحديد، ثم يشقه حسبما يتطلب الآلات التي يريد صناعتها، ثم يضعها وسط النيران المتوجهة من موقد النار الكهربي "الكور"، والذي تغير بنائه عبر الزمان حيث كان يعتمد في الماضي على تحريك المنفاخ اليدوي، وعندما تصل قطعة الحديد إلى درجة الإحمرار يضعها على السندان وثم يتناوب هو ومساعديه الطرق بصورة متناغمة، حتى يخرج المنتجات التي التي يريد تصنيعها بشكل نهائي.وأما عن توريث المهنة للنشأ الجديد، لا يشترط المعلم إبراهيم وإخوته على أطفاله المهنة وتعليمها، بل يتركونهم أحرار إذا كان لديهم شغف حب المهنة من غيره، حيث أنهم لا يحبون أن تتكرر نفس تجربتهم في إجبارهم على امتهان حرفة معينة، كما أنهم يريدونهم أفضل منهم ويرون أن التعليم أفضل لهم بكثير من هذه المهنة الغدارة التي تبيع وترمي صاحبها بمجرد تعبه فلا يجد من يحنوا عليه، ولا يجد مصدر للإنفاق على نفسه وأولاده."المهنة صعبة وكثيرًا ما هدت أبطال، فالحداد أِشبه بالعتال" على حد وصف المعلم إبراهيم، والذي يؤكد أنه لو تعرض لأي جرح أو إصابة لا يجد من يشفق عليه، ويضطر للجوء للسُلفة من أي شخص للقدرة على الإنفاق على أهل بيته، ويلخص كل هذه المعانة في جملة كثيرًا ما رددها أجداده: "مهنة الحدادة أولها محاط وآخرها شحات"، وهذا كان سبب كافي لدى المعلم إبراهيم لمنع أطفاله من ممارسة هذه المهنة أو القدوم حتى للورشة.مع منع المعلم إبراهيم لأولاده من القدوم للورشة والمحافظة عليهم من مخاطر ومصاعب هذه المهنة، إلا أن إخوته كان لهم نظرة آخرى كما ذكرناه أنفًا، حيث أعطوا مطلق الحرية لأطفالهم في القدوم للورشة والعمل بهذه المهنة من عدمه، وهو ما فتح مجال لمحمد للقدوم للورشة وحب المهنة، على الرغم من صغر سنه.طفل في العاشرة من عمره، يمسك بيده مطرقة أكبر منه حجمًا، ويرفعها لأعلى جهده، ثم يتناوب مع عمه الطرق على الحديد بصورة متناغمة، كانت بداية محمد بزيارة للورشة مع والده، حينها عشق الولد الطرق، وأعجبه التناول على طرق الحديد والصوت المتناغم الذي يصدر عن طرق الحديد، ومن هنا تعلق الطفل بالمهنة الشاقة.الطفل يعلم أنه أقبل على الشقاء والعناء بيده، إلا أن حبه للحدادة ينسيه ويضيع شعوره بالتعب، وحلمه في أن يكون مثل أبائه وأجداده أقوى من الآلم التي تسببه المهنة له.

اقرأ أيضا