الحي الإماراتي ببورسعيد.. هنا يُقتل الأطفال تحت شُعلة سنمار (تحقيق)

السبت 10 نوفمبر 2018 | 02:01 مساءً
كتب : سارة أبوشادي

طفل، لم يتجاوز الخامسة من عمره وقف يلهو برفقة أصدقائه، يوميا فى مثل هذا الوقت بعد انتهائه من دروسه يذهب للعب الكرة خلف منزله، ولم تكد تمر دقائق معدودة حتى بدأت ملامحه تتغير، وقف يلهث لا يستطيع التنفس، وضع يده على صدره وكأنه يتألم، دارت الأرض من حوله والتفت يمينا ويسارا حتى سقط مغشيا عليه.

 

 

أسرع أصدقاؤه يحاولون إفاقته لكن الصغير لا يستجيب، هرول أحدهم إلى منزل الطفل لإخبار أمه، والتى أسرعت وهى تصرخ لتجد صغيرها مغشيا عليه، حملته إلى المستشفى، وبعد لحظات أخبرها الطبيب أن الصغير أصيب بضيق تنفس نتيجة انبعاث غازات ملوثة إلى رئته الضعيفة، ولم يكن الصغير وحده من نال نصيبا من هذا التلوث بل لحقه رفقاؤه فيما بعد إلى المستشفى.

 

بحيرة ساكنة مياهها يخرج منها رائحة أشبه بمياه الصرف الصحى، منفذ صغير لقوات الأمن يمر من خلاله أهالى المكان، لا يمر أحد من هنا بدون تفتيش، الغرباء لا مكان لهم، لا يدخل هناك سوى قاطنى المنطقة فقط، إلا بعض المتسللين.

 

 

هدوء حذر، صحراء لم يمر على تعميرها كثيرا، على مرمى البصر دخان يتصاعد يغطى المكان مكونا سحبا سوداء كأنها ممتلئة بمياه الأمطار، لكن الحقيقة أنه لونها الحقيقى، رائحة نفاذة تنبعث من كل اتجاه، أشبه بمادة حارقة تخترق حنجرتك فور استنشاق الهواء المختلطة به.. تلك المشاهد لا تراها إلا فى "الحى الإماراتى ببورسعيد".

 

 

«الحى الإماراتى ببورسعيد» يقع على أطراف المدينة الباسلة وخارج منافذها، كان عبارة عن صحراء تم تعميرها، يعيش بها أكثر من 4 آلاف شخص، فيما يقرب من 3 آلاف شقة سكنية، بالمرحلة الأولى فقط.

 

ويقابل هذا المشروع الإسكانى على الطرف الآخر، أحد مصانع البتروكيماويات الشهيرة، مصنع "أى تى سنمار" لإنتاج الكلور، فى ظاهرة لم نجد مثيلا لها سوى على هذه البقعة من أرض المحروسة.

 

وفي هذا التحقيق نكشف معاناة أهالى الحى الإماراتى بسبب انبعاثات غازات سامة من مصنع أى تى سنمار، والتى أدت إلى حدوث وفيات، وكذلك ردّ المسئولين على وقائع عديدة كشفها أهالى الحى بشأن المصنع وما يصدر منه، بالإضافة إلى المحافظة ووزارة الصحة والجهات المختصة، فى محاولة لإنقاذ المواطنين القاطنين بالحى من الموت بسبب التلوث:

 

 

ملخص الكارثة..

المحافظة للسكان: «لو مش عاجبكم ماعندناش شقق».. والأهالى: الموت بالغاز أرحم من الشارع

بداية الحكاية، أن مدينة بورسعيد تعد من المدن المحددة، فلا تمتلك سوى منفذينن اثنين فقط، وقبل عدة سنوات وتحديدا عام 2002، قرر أحد المستثمرين بناء مصنع للكيماويات يتبع شركة تراست التى كانت مملوكة لرجل الأعمال إسماعيل محمد إسماعيل، وتم بيعه عام 2007 لمستثمر هندى، قام بتغيير اسمه إلى «تى سى آى سنمار»، بناه خارج حدود بورسعيد، أى خارج المنافذ التى تحد المحافظة، بما يقرب من 3 كم، فى منطقة من المفترض أن المحافظ قد أعلن أنّها ستكون بمثابة منطقة صناعية ستشتمل على ما يقرب من 23 مصنعا، الأمر حتى هذه اللحظة لم يوجد به أى مشاكل؛ لأنّ المنطقة مخطط لها أنّها صناعية فقط ولا يمكن أن يعيش بها مواطنون، خاصة وأنّها تعتبر من المناطق المتطرفة، بعيدّا عن كونها تصلح لأن تكون منطقة سكنية.

 

 

ومنذ ما يقرب من 5 سنوات؛ طرحت الدولة استثمارات للإسكان الاجتماعى، لمحدودى الدخل والشباب، وبالفعل تسارع مواطنو بورسعيد البسطاء للتقديم فى هذا المشروع، خاصة وأنّ المحافظة قد طرحت مواصفات مميزة لهذا المشروع، بالإضافة إلى أنّ المنطقة التى سيتم بناء المشروع بها من أفضل المناطق السكنية فى بورسعيد، الأمر الذى كان بمثابة إغراء فى ظل أنّ تكلفة الإسكان- وقت طرح الوحدات- لم يكن بالسعر المرهق لهؤلاء، حتى تلك النقطة، الأمور تيسرت بشأنها دون حدوث مشكلة.

 

 

وبعد مرور الخمس سنوات تفاجأ المتقدمون بأنّ المواصفات التى طرحتها المحافظة وهمية والواقع كان صدمة بالنسبة لهم، فالمحافظة قررّت بناء مشروع الإسكان فى المنطقة التى وعدت أنّها ستكون صناعية فقط، وشيدت آلاف الوحدات السكنية فى منطقة معدومة من الخدمات، على أطراف المدينة، وبالقرب من المصانع، تحت مسمى المشروع الإماراتى، نسبة لكون منحة المشروع الأساسية مقدمة من دولة الإمارات الشقيقة.

 

وبررت المحافظة هذا الأمر بأنّها لم تجد مكانّا مناسبّا للمشروع بداخل مدينة بورسعيد وأنّ المكان الحالى الذى شيد فيه المشروع هو الأنسب.

 

المشروع أنشئ لحوالى 22 ألف مواطن، واضطر الجزء الأول إلى الاستلام، وسيضطر غيرهم كذلك؛ لعدم وجود مأوى آخر.

 

 

المواطنون لم يكن أمامهم خيار آخر، 5 سنوات انتظروا خلالها المشروع، وبعد الانتهاء منه تفاجأوا بأنّ الحقيقة كارثية، وأنّ مشروعهم بنى بالقرب من أحد المصانع الكبرى لإنتاج الكلور، ممّا يهدد حياتهم وحياة صغارهم، وعندما حاولوا الاعتراض؛ كان الرد: «مش عاجبكم ماتاخدوش الشقق».

 

 

لم يكن أمام هؤلاء البسطاء سوى الموافقة، فالموت أهون عليهم من العيش فى الشارع، خاصة وأنّ هناك أزمة كبيرة فى الشقق السكنية ببورسعيد، بالإضافة إلى ارتفاع الأسعار، ووافق السكان على هذا الأمر، لأنّهم اعتقدوا أنّ الوضع ليس خطيرّا بالشكل الكبير، وأنّ تلك الصحراء الجديدة التى سيعيشون بها، سيعملون على تعميرها، وبالفعل بعد شهور من انتقال السكان للمشروع؛ ساهم الشباب فى بناء مدرسة ومسجد، وعملوا على توفير الخدمات بجهدهم الذاتى للحى.

 

وبعد أيام من استلام السكان أماكنهم، تفاجأوا برائحة غريبة تخرج من المصنع، والتى تسببت على مدار شهور فى إصابة العديد من أطفالهم بأمراض صدرية وضيق تنفس وغيرها، تلك التى لم يتحملها صغير أو كبير، وبعد محاولة اكتشاف مصدر تلك الرائحة النفاذة؛ اكتشفوا أنّها عبارة عن تسربّات سامة مسرطنة، تخرجها محرقة المصنع للهواء، دون مراعاة لوجود مواطنين بالقرب منهم، أو حتى مراعاة توافر السلامة البيئية فى المنطقة.

 

 

4 آلاف أسرة تعيش مهددة بالموت يوميّا، حاولوا الوصول للمسئولين؛ لكن جميع محاولاتهم باءت بالفشل، خاصة وأنّ كافة الإجابات الرسمية عليهم، كانت عبارة عن أنّه "لا يمكن الاقتراب من هذا المصنع؛ لأنّه مسئول عن إنتاج المادة التى تعمل على تنقية المياه لأكثر من ثلاث أرباع محطات التنقية فى محافظات الجمهورية"، لذا فلا يمكن لأحد أن يقترب منه، على الرغم من تهديده لحياة الآلاف من القاطنين بجواره.

 

 

حاول السكان أيضًا اقتراح حلول على المسئولين بالمحافظة، تُساهم فى حل المشكلة، أبرزها إمّا تركيب فلاتر لتنقية السموم التى تخرج من المصنع، أو حتى محاولة نقله لمكان آخر يعيدا عن العمران؛ لكن كانت الإجابة صادمة لهم فعملية النقل ستكلف مليارات الجنيهات، ولا يوجد استعداد لدى مالكى هذا المصنع لدفع تلك المليارات، بالرغم من أنّ استثماراته تجاوزت الـ80 مليار جنيه، بالإضافة إلى كونه يعمل على إنتاج مادة تحتاجها الدولة بعد أن كانت تستوردها قديمّا؛ لذا فإن محاولة غلق المصنع تعد من المستحيلات.

 

 

لم يكن يتواجد طريق بعينه يوصل إلى الحى يستطيع الأهالى المرور عليه للخروج من المنطقة، فكان لابد لهم من الدخول من منفذ الرسوة، هذا المنفذ الذى يمر عليه القادمون من القاهرة، فكان لابد لهم للخروج من الحى المرور بمنفذ الرسوة ثم المرور على المصنع للعودة إلى منازلهم، الأمر الذى كان يشكل صعوبة بالغة عليهم وعلى أطفالهم، فكثر الحديث عن المصنع ومشاكله والتلوث الذى يخرج منه خاصة مع اشتداد الرائحة التى يتنفسها المواطنون المارون أمامه، فقرر أصحاب المصنع التواصل مع عدد من المسئولين لإيجاد طريق آخر لساكنى الحى الإماراتى، ومن هنا أنشئ كوبرى يمر من خلاله أهالى الحى لخارجه.

 

سنمار.. نموذج من المصنع الهندى القاتل

يقع «سنمار» فى المنطقة الصناعية جنوبى مدينة بورسعيد منذ إنشائه عام 2002، وينتج مادة الإثيليين الأخضر المشتقة من مادة الإيثانول لإنتاج مادتى الصودا الكاوية وكلوريد فينيل، وكان المصنع ملكا لأحد المستثمرين البورسعيديين، والذى يدعى أبو إسماعيل، وهذا الشخص باعه لمستثمرين هنود عام 2007، وعلى حد قول أحد العاملين بداخله؛ فإنّ المصنع به جنسيات متعددة.

 

وقبل إنشاء مصنع فى مصر؛ كان هناك آخر فى الهند ينتج نفس المنتج، وتحديدّا فى مدينة بوبال الهندية، هذا المصنع انفجر؛ فأحرق قرية بأكملها ومات الآلاف؛ فقررت الحكومة الهندية عدم بناء مثل تلك المصانع مرة أخرى، ووقف إنتاج تلك المادة.

 

 

أيضا، يتم صرف مخلفات المصنع فى مجرى مائى يسمى "البحيرة" تقع بجواره، تلك البحيرة التى تمتلك أجود  أنواع السمك البلطى على مستوى الجمهورية، صاحب المصنع حاول أن يثبت للجميع عدم خطورة المصنع؛ فبادر بزراعة إحدى الجناين بجواره، لكن الحقيقة أن الحديقة فسدت بعد وقت قصير.

 

سجود.. طفلة واجهت الموت بعد استنشاقها الهواء الملوث وأصبحت جليسة المنزل

صغيرة لم تتجاوز الـ7 أعوام، جسدها ضعيف وعيناها بدا عليهما آثار المرض، كاد الموت على وشك النيل منها، هوت على الأرض لدقائق معدودة تتقلب يمينا ويسارا لا تعلم والدتها شيئّا، وحاولت الاستغاثة، بدأت الفتاة تغمض عينيها تُحاول التنفس لكنّها لا تستطيع، الأم لم تكف عن الصراخ، فهى على وشك أن تفقد صغيرتها، "سجود" تلك الفتاة الجميلة التى كانت ضحية ضمن ضحايا المصنع.

 

"أنا بنتى عندها حساسية واليوم ده الريحة كانت شديدة" لم تكن تلك المرة الوحيدة التى تصاب فيها سجود بتلك الأزمة، فبحسب حديث والدتها منذ أن قدمت ابنتها برفقتهم إلى الحى الإماراتى وهى دائما ما تصاب بحالات اختناق خاصة وأنّها مريضة حساسية، ولا يمكن لها أن تجلس بالقرب من روائح نفاذة، لكن هذا اليوم كانت الرائحة شديدة ولم تشعر سجود بمفردها بالاختناق بل كان هناك عشرات الأطفال من القاطنين بالحى أيضّا.

 

 

كانت الصغيرة نائمة فى ثبات حتى فوجئت الأم، باستيقاظها فجأة ومحاولتها التنفس بصعوبة، وأخبرتها أنّها لا تستطيع التنفس، انتفضت الأم مسرعة وذهبت بطفلتها إلى المستشفى، حاولوا إسعافها من خلال إعطائها جلسة تنفس لكن الطفلة لم تستجب وما زالت تختنق فتمّ إعطاؤها جلسة ثانية، لكنّ الوضع يزداد سوءا والطفلة حالتها الصحية متدهورة، حتى تمّ عمل العديد من الإسعافات التى مكنتّها فيما بعد من التقاط أنفاسها بشكل أفضل مما كانت عليه.

 

 

"الدكتورة قالت لى إنتم مجانين؟، حد يسكن جنب مصنع كيماويات؟".. حالة سجود المتدهورة بالمستشفى جعلت الطبيبة المسئولة عن إسعافها، تسأل الأم عن سبب وصول الطفلة إلى تلك الحالة، فأخبرتها الأم أنّهم من قاطنى الحى الإماراتى المتواجد به مصنع أى تى سنمار للكيماويات، وهو السبب الرئيسى فيما وصلت إليه حالة طفلتها الآن.

 

عادت سجود إلى المنزل برفقة والدتها، بالرغم من عدم شفائها بدرجة كبيرة لكنّها فضلت العودة، وفى اليوم التالى مباشرة ساءت حالة الفتاة، سقطت على الأرض فجأة، وبدأت عيناها تتحول بشكل غريب، أصوات تخرج من فمها؛ فى محاولة منها للتنفس لكن بلا فائدة، مشهد لم تتحمله الأم حتى استغاثت بجيرانها لتكشف أنّ ابنتها لم تكن الوحيدة التى انتابتها تلك الحالة فى هذا الوقت، فهناك العديد من الأطفال أيضّا أصيبوا نتيجة انبعاث الغازات الشديدة من المصنع تلك الليلة.

 

 

حضرت سيارة الإسعاف وحملت الفتاة وهى فاقدة للوعى، حتى اعتقد الكثيرون أنّها لن تنجو تلك المرة، لكن شاء القدر أن تعود إلى الحياة مرة ثانية، وحتى تلك اللحظة تعيش سجود بين غرفة منزلها واستقبال المستشفى، فلم تعد تقوى الصغيرة أن تذهب لمدرستها حتى اليوم، بسبب ما وصلت إليه حالتها.

 

 

إحدى ساكنات الحى: ابنى تقيأ «ريم أبيض».. وطبيبة المستشفى نصحتنا بالهروب من المكان

نهى عوض سيدة فى الثلاثين من عمرها، تقطن بالحى الإماراتى، حاولت أن تصعد الأمر؛ خاصة بعد إصابة صغيريها "ياسين" صاحب الـ3 سنوات ويوسف صاحب الـ5 سنوات، الطفلان اللذان أصيبا هما الآخران بسبب الرائحة النفاذة التى تخرج من المصنع، فقررت الأم أن ترسل شكوى إلى مجلس الوزراء؛ خوفّا من أن تفقد صغيرها، والمسئولون بالمحافظة لا يحاولون إيجاد حلول؛ لذا فالتصعيد كان الحل بالنسبة لها.

 

"اتفاجئت بمكتب رئيس الوزراء بيتصل بيا ويقولى إيه الموضوع؟".. قالت "نهى": حينما استفسر المسئول بالمكتب عن عدة أمور، أبرزها "تقارير احتجاز الأطفال بالمستشفى- مستشفى ناصر ببورسعيد-"؛ فكانت إجابتى بأنّ الأطفال لا يمكثون لأكثر من يوم واحد، ولا يتم استخراج تقارير لهم من قبل إدارة المستشفى، بل الكارثة الكبرى أنّ الأطفال المصابين دخلوا المستشفى بتذاكر مرضى آخرين.

 

 

"أنا جيت الشقة دى من حوالى سنة ونص فى الشتا".. استطردت "نهى" أن حكايتها بدأت قبل أكثر من عام، حينما جاءت فى الشتاء للسكن بالمشروع الإماراتى، والتى لم تكن تملك غير العيش بداخله هى وزوجها وأولادها، وبعد أيام قليلة ولأنّ الرائحة تشتد فى الشتاء فوجئت بمرض ابنها الكبير يوسف، لتكتشف فيما بعد أنّه أصيب بمرض حساسية الصدر الأمر الذى زاد الوضع سوءّا، فالصغير لا يمكن أن يتحمل تلك الرائحة المنبعثة كثيرًا.

 

 

"إحنا لو معانا فلوس كنا مشينا من هنا.. لكن ما باليد حيلة".. أُجبرت نهى وزوجها على العيش فى هذا المكان، خاصة بعد الظروف الصعبة التى مرت بها، فما بين السكن بداخل شقة إيجار والعيش لدى والدتها، فقررت الموافقة على السكن بالحى الإماراتى بالرغم من المخاطر حوله.

 

 

ومنذ اليوم الأول، بدأ مسلسل الكوارث، شقة بلا أى خدمات، حتى عوامل السلامة غير موجودة، فكادت العمارة أن تحترق عدة مرات من قبل، ومع انقطاع الكهرباء المتكرر وارتفاع درجة حرارة الصيف كانوا يضطرون لفتح النوافذ والأبواب؛ فيمتلئ المكان بانبعاثات المصنع.

 

 

وتابعت: "إحنا بنموت فى فصل الشتا؛ لأن الريحة بتبقى أقوى" خاصة وأنّ الشعلة التى تخرج الأدخنة والغازات من المصنع لا تنطفئ مطلقا فى فصل الشتاء، الأمر الذى يزيد من انتشار الرائحة بشكل أسرع مع الهواء، والوضع يزداد سوءًا فى هذا الوقت من العام تحديدّا.

 

 

"ابنى كان بيرجَّع ريم أبيض.. قولت ساعتها إنه بيموت".. أوضحت والدة الطفلين أن الأمر لم يقتصر فقط على مجرد شعور الأطفال أو حتى الكبار بضيق تنفس أو اختناق، بل وصل الأمر بهم إلى القىء بألوان غريبة، والسقوط على الأرض؛ كأنّ الطفل أصابته حالة من الصرع، كل تلك الأمور كانت نتيجة للانبعاثات وفقّا لقول الأطباء لهم.

 

 

وفور وصول الأم إلى المستشفى بصغيرها، وإخبارها للطبيبة بأنّها تقطن بالحى الإماراتى، على الفور أدركت خطورة الموقف، ووضعت الصغير على جهاز التنفس، وأبلغت الأم أن رئتيه لم تتحملا الغاز الذى استنشقه، وكان من الممكن أن يفقد حياته، ولا بد من أن تبحث عن مكان آخر لهؤلاء الأطفال بعيدا عن هذا المكان، لكن نهى والكثيرين غيرها لا يملكون سوى هذا المسكن الذى أقامته المحافظة لهم بعد الحصول على منحة إماراتية من أجل الشباب وسكان العشوائيات.

 

الأطباء حذروا الحوامل فاضطرّ أكثرهن للهروب

بداخل العمارة 13 شقة مغلقة، على ما يبدو لا يوجد بها أشخاص، السكان تحدّثوا أنّ صاحبة تلك الشقة هربت من العمارة بعد مرضها الشديد خاصة وأنّها امرأة حامل وحذرها الأطباء من الاستمرار فى هذا الوضع، لأنّ من شأن تلك الانبعاثات أن تؤثر على الجنين، لذا قررت الهرب من الحى الإماراتى، والسكن لدى أحد أقاربها لحين وضع جنينها؛ خوفّا عليه.

 

 

لم تكن تلك الحالة الوحيدة التى قررّت الهرب من الحى، فعلى مقربة من العمارة 13، كانت العمارة 125، تقطن بها "زهراء"، فتاة فى نهاية العشرينات، عانت هى الأخرى برفقة زوجها للحصول على هذا السكن، لم تعلم أنّ المكان لا يصلح للسكن، لكنّها لم تجد وزوجها غيره للعيش بداخله.

 

الفتاة فور علمها بأنّها تحمل جنينّا؛ نصحها الأطباء بعدم التعرض لأى روائح نفاذة أو غازات مضرة، لأنّ هذا الأمر سيسبب العديد من المشكلات للجنين، ولم تفكر زهراء فى الأمر فقررّت ترك منزلها وزوجها والذهاب للعيش برفقة والدها ووالدتها بالمدينة، وتأتى لرعاية زوجها يوما واحدا كل أسبوع، فما بيدها حيلة- على حد قولها- لكنّها أيضّا لا تريد أن تؤذى جنينها، مقابل أشخاص لا يعرفون معنى الإنسانية والرحمة.

 

 

أحد العمال: أضربنا للحصول على حقنا ففصلنا تعسفيا

لم يشكل المصنع تهديدا على المواطنين المجاورين له فقط؛ بل كان أشدّ خطرَا على العاملين بداخله- وفقا لحديث أحد العمال- فمنذ مايقرب من 4 أشهر، أضرب عدد كبير من العمال بسبب عدم وجود أى عوامل أمان، ما تسبب فى وفاة زميل لهم، وآخرين أصيبوا بالخنق، بل تم فصل عدد كبير منهم تعسفيّا، وتعويضهم بأموال؛ حتى يصمتوا.

 

وبالنسبة لباقى العاملين فى المصنع؛ فتمت زيادة مرتباتهم ما يقرب من 8 أضعاف؛ حتى لا يفكروا فى الاعتراض مرة ثانية، ونجح القائمون بالمصنع فى هذا الأمر؛ لذا أُجبر العاملون على الاستمرار به، فيذهبون للعمل وهم على مشارف الموت، لكن الموت مقابل المال أفضل بكثير من الموت جوعّا.

 

 

مهندس يحث المواطنين على الهرب من الموت

أحد المهندسين بالمصنع قال إنهم قاموا بشراء جهاز جديد فى المصنع؛ للعمل فى المرحلة الثانية، وتحديدا على بوابة رقم 3، هذا الجهاز يُخرج مواد مشعة، أشد خطورة على الإنسان، ولا يمكن وضعه واستخدامه فى منطقة سكنية، مشيرا إلى أن هذا الجهاز فى أى دولة فى العالم يتم وضعه بجوار البحر، بعيدا عن المناطق السكنية، وحاول تحذير السكان من خطورة الجهاز الجديد وحثهم على الهرب.

هانم عبد الرحمن.. عجوز ستينية لا خيار لها إمّا الموت خنقّا أو بالغاز المنبعث من المصنع

بشعرها الأبيض وجسدها الضعيف الذى تملّك المرض منه، ووجه شاحب لا تكاد تظهر منه عينيها من المرض، جلست فى مقابل النافذة، كانت تستنشق الهواء بصعوبة بالغة، حيث لا يمكن أن تُغلقها؛ كونها مصدر الهواء الوحيد، الدموع تملأ عينيها وتُحاول الخروج لكنّها تتماسك، معاناة تلك العجوز لم تبدأ إلّا منذ أشهر قليلة، وتحديدا بعد انتقالها للعيش برفقة ولدها هنا بالحى الإماراتى.

 

هانم عبد الرحمن، عجوز بلغت من العمر 67 عامّا، كانت تعمل فى وزارة الإسكان بمدينة بورسعيد، وبعد خروجها على المعاش وتقدم عمرها؛ قررت السكن برفقة ابنها وزوجته، لكنّها لم تكن تعلم ما ينتظرها بالحى،: "أنا بعانى من ضغط وسكر وحساسية وزادوا عليّا بسبب الدخان".

 

 

"هانم" بسبب تقدم عمرها؛ أصيبت بعدة أمراض، لكنّها كانت تتعايش معها حتى مجيئها للحى الإماراتى، فالعجوز لم تعد تتحمل الروائح المنبعثة من المصنع، وفى حالة محاولتها إغلاق النوافذ منعّا من دخول تلك الروائح إلى الشقة؛ تشعر باختناق، لذا لا يوجد أمامها خيارات أخرى، فإمّا الموت من رائحة غاز المصنع، أو الموت مختنقة بالمنزل.

 

 

"إحنا مش عايزين نمشى، ولا المصنع، إحنا عايزينه بس يطبق معايير السلامة".. لم تطلب العجوز أكثر من حقها وهو أن يتبع المصنع طرق السلامة والمعايير الآمنة ومحاولة إغلاق المحابس التى تخرج الرائحة التى تؤذى العجوز وغيرها من السكان.

 

 

نور: شعلة المصنع أشبه بمحرك طائرة يعمل فوق رؤوسنا

فى مواجهة المصنع وقفت أسفل العمارة تُنادى على صغارها، تحمل رضيعة وتقبض على يد آخر، تحدّثنا معها، أخبرتنا أنّها إحدى سكان العمارة رقم 13 والمواجهة للمصنع مباشرة، تلك العمارة التى تُعد أشد تضررا فى الحى الإماراتى بأكمله، لأنّها تستقبل الرائحة بالكامل، بالإضافة إلى صوت الشعلة الأشبه بمحرك طائرة مروحية تطير فوق سطح المنزل.

 

"نور" فتاة عشرينية أصيب طفلاها الصغيران باختناق نتيجة تسرب غاز من مصنع أى تى سنمار، ولكونها تقطن فى العمارة المواجهة للمصنع مباشرة؛ كانت تتخذ العديد من الإجراءات للحفاظ على طفليها لكنها لم تكن تجدى دائمّا،: "بمنع ولادى يخرجوا البلكونة، وبقفل الشبابيك كلها".

 

 

حاولت الأم أن تتخذ عدة إجراءات خوفّا على طفليها بداية من منعهما من الخروج من المنزل نهائيّا، مرورا بغلق كافة أبواب ونوافذ الشقة بأقمشة مبللة حتى تمنع تسرب الهواء للداخل وبرغم كافة تلك الإجراءات إلّا أنّها تذهب بين الحين والآخر إلى المستشفى بصغارها.

 

لم تعتقد الفتاة العشرينية أنّ الوضع سيبدو سيئا لتلك الدرجة، فهى علمت قبل سكنها بخطورة الوضع؛ لكنّها لم تجد أمامها وزوجها حلا آخر سوى السكن فى الحى الإماراتى، بالرغم من أنّه فى أول 3 شهور لم تكن تلك الرائحة نفاذة بهذا الشكل، فالمزعج كان الشعلة فقط والتى ذكرت من قبل أنّها أشبه بمحرك طائرة هيلكوبتر، لكن منذ عدة أسابيع ساءت الأوضاع كثيرّا ولم يعد الأهالى يتحملون، بخاصة القاطنون بالعمارات المتواجدة فى مواجهة المصنع.

 

 

محمد: «أصحابى هربوا من المصنع.. والمحافظة صممت تجيبنا نموت»

"محمد" شاب ثلاثينى يقطن بالحى الإماراتى، لم يطلب من المسئولين  شيئ سوى عدم ظهور الرائحة التى تنبعث من المصنع والتى تؤثر على الأطفال، فيوميّا يذهب بصغاره إلى المستشفى مصابين بحالات اختناق، خاصة وأنّه يقطن بأحد العقارات المتواجدة مقابل المصنع مباشرة، فلا يفصل بين محل سكنه- ومصنع الموت كما أطلق عليه- سوى مسافة قليلة.

 

 

"أنا عندى أصحابى كانوا شغالين فى المصنع وهربوا منه".. لم تكن أزمة مصنع أى تى سنمار، تقتصر فقط على سكان الحى الإماراتى، بل كان العاملون بداخله لهم دور فى تلك الأزمة.

 

 

وبحسب حديث محمد؛ فإنّ هناك عددا من رفقائه كانوا يعملون بالمصنع، وبعد فترة بعينها قرروا الهرب وتقديم استقالاتهم بسبب خوفهم على حياتهم، وبعد موت أحد زملائهم بالمصنع؛ أضربوا عن العمل، لكنّ إدارة المصنع قررت زيادة المرتبات لـ8 أضعاف؛ حتى يلتزم العاملون الصمت.

 

 

وبسؤال محمد لأحد زملائه العاملين بالمصنع، عن محاولة نقل المدخنة المتسببة فى كل تلك الكوارث؛ أخبروه أنّه من الصعب أن يتم هذا الأمر؛ لأنّها ستكلف الكثير، بل ستتخطى ملايين الجنيهات، والمصنع لن يتحمل تلك التكلفة، وعلى الرغم من أنّ المصنع مجهز بأحدث وأجود الأجهزة؛ إلّا أنّ جميع مخلفات المصنع التى يتم حرقها تخرج من الشعلة مباشرة، دون حتى المرور على فلاتر لتنقية السموم.

 

"لما المصنع عرض على المحافظة يشترى المساكن لعماله؛ المحافظة رفضت، ليه؟؛ علشان تجيبنا نموت هنا".. بالرغم من أنّ المصنع عرض على المحافظة شراء المشروع للعاملين به، إلّا أنّ المحافظ رفض هذا الاقتراح بالرغم من علمه بخطورة المصنع على الأهالى، لكنّه أصرّ على قدوم ما يقرب من 4 آلاف أسرة فى المرحلة الأولى، وما زال المشروع يتم تجهيزه لاستقبال المرحلتين الثانية والثالثة.

 

جهاز تنفس وبخاخة هدية لـ«رحمة» صاحبة العام ونصف فى عيد ميلادها

كانت تلهو فى المكان، عام ونصف هو عمرها، ابتسامة بريئة وضحكة خفيفة ترسمها على خديها، تمسك بيدها جهازّا أشبه ببخاخة تنفس، تلك التى يستخدمها مرضى حساسية الصدر، من بعيد تعتقد أنّها فقط مجرد لعبة بيدها؛ لكنّ الصغيرة وضعتها فى فمها، فى محاولة لاستخدامها وكأنّها تعلم جيدّا الطريقة.

 

"رحمة" طفلة لم تتخط حاجز العامين، تقطن برفقة والديها وشقيقها بالحى، تعد الصغيرة ضحية ضمن ضحايا التلوث الذى يملأ المكان، فيوميّا تذهب الأم بها إلى المستشفى؛ لتتلقى جلسة تنفس بعد إصاباتها المتكررة بضيق وإغلاق فى الرئة.

 

فى عيد ميلاد رحمة الأول، وتحديدّا قبل ما يقرب من 4 أشهر، ولأنّ الصغيرة كانت تقضى معظم وقتها بالمستشفى على أجهزة التنفس، فوجئت الأم بهدية- كانت غريبة بعض الشىء-؛ فأحد أقاربها بدلّا من أن يجلب للصغيرة عروسة تلعب بها، قدّم لها جهاز تنفس وبخاخة حتى تستطيع الأم إسعاف الطفلة فى المنزل حال إصابتها بضيق تنفس، هذا الجهاز الذى تخطّى سعره الـ500 جنيه أدخل السعادة على قلب الأم التى كانت تُعانى كثيرا أثناء إصابة طفلتها.

 

 

لم تكن رحمة بمفردها من امتلكت هذا الجهاز فى المنزل فهناك عشرات الأطفال مثلها، فبدلا من أن تمتلئ غرفهم بالألعاب، حلّ محلها أجهزة التنفس والأدوية، فقط لأنّ القدر شاء أن يتواجدوا بالحى الإماراتى وبالقرب من أى تى سنمار.

 

الأطفال يخلدون للنوم بالمدرسة بسبب الرائحة التى تفقدهم الوعى

لم تكن معاناة أهالى الحى وأطفالهم تقتصر فقط على منازلهم؛ بل امتد الأمر إلى المدرسة، فبحسب حديث عدد من سكان الحى الإماراتى؛ فقد اشتكى عدد من المدرسين بأنّ هناك رائحة نفاذة فى الهواء تجعل الطالب لا يقوى على فعل شىء، فالأطفال يقضون نصف يومهم الدراسى نائمين.

 

 

وبعدما اشتكى عدد من المدرسين لأولياء الأمور؛ طالبوا بإثبات حالة، لكنّ المدير رفض هذا الأمر، معللا أنّ ما يحدث للأطفال مجرد تغييرات جوية ولا علاقة لها بمصنع أى تى سنمار، لذا لا يمكن التطرق لعمل تقارير أو إثبات حالة أو غيرها، فقرر المعلمون عدم الحديث فى هذا الأمر مرة ثانية.

 

وزير البيئة السابق: المحافظة عرضت بناء المشروع.. والوزارة حذّرت منه

الدكتور خالد فهمى وزير البيئة السابق، تحدّث عن أن عدة مشكلات حدثت فى عهده؛ بسبب مصنع "تى أى سنمار" الواقع بمحافظة بورسعيد، فقرر تشكيل لجنة ثلاثية من فرع جهاز شئون البيئة بمعامله، بالإضافة إلى مشاركة الإدارة المركزية أيضًا وأساتذة من الجامعات، وأعضاء من الحرب الكيميائية، وفى بعض أجزاء من تلك اللجنة كانت عبارة عن جهات سيادية؛ لمراجعة التقرير، وتمّ ترك المعمل التابع للوزارة واللجنة المشكلة فى المصنع لفترة طويلة، وثبت بعدها عدم وجود أى مخالفات تلك التى يتحدّث عنها أهالى منطقة الحى الإماراتى.

 

 

وتابع وزير البيئة السابق، أنّ المصنع متواجد قبل إنشاء الحى الإماراتى بعدة سنوات، كما أنّ وزارة البيئة لم تُعط موافقاتها على إنشاء منطقة سكنية بجواره، فحتى قبل أن يتولى منصبه كوزير؛ أرسلت محافظة بورسعيد طلبّا، لبناء مشروع إسكانى بالمنطقة، فأبدت الوزارة تحذيراتها، بل خرجت بتقرير لها أثبتت خلاله أنّ الوزارة تفضل وتوصى بعدم بناء منطقة سكنية بجوار المصنع، كما تفضل وجود مسافات كبيرة بينها وبينه، لكن المحافظة لم تتطرق لتلك الأمور، وتمّ البناء أثناء الثورة، واستمرّ إلى ما بعدها.

 

 

الدكتور خالد فهمى، أكّد مرة أخرى على تقارير المعمل الذى ترك بداخل المصنع لعدة شهور بعدم وجود مخالفات بداخله، الحالة الوحيدة هى محطة الصرف فقط، لكنّه لا يعرف آخر رصد تمّ بعد خروجه من الوزارة، فمن الممكن أن تكون ثبتت أمور أخرى لا يعلم عنها شيئا.

 

 

وأشار إلى أنه تمّ عرض هذا الأمر على البرلمان من خلال عدة تقارير خرجت من الوزارة، لكن- وعلى حد قوله- فالمصنع كان ملتزما بيئيا، بخلاف بعض المشكلات مع العمال التى لا علاقة لها بوزارة البيئة، لكن الجزء البيئى ليس مخالفا ولا يتخطى الحد المسموح من الانبعاثات المذكور فى القانون.

 

 

 

المصنع: لا توجد إصابات.. ونسير وفقا للقانون

القائمون على مصنع "سنمار" لم يعترفوا مطلقّا بوجود أخطاء بداخله، حيث خرج مسئولوه ليعلنوا أنّ عام 2017 شهد ما يقرب من 12 مراجعة بيئية قامت بها الجهات المختصة، ولم تكشف عن وجود أى تلوث بالمصنع، كما نفوا حدوث أى انبعاثات صادرة منه تكون ضارة على حياة الإنسان، ولم يتم تسجيل إصابة مرضية واحدة ناتجة عن مناخ بيئة العمل داخل المجموعة، ولم تتغير معدلات الإنتاج خلال العام الحالى أو تختلف عن العام الماضى، ومنعّا لتكرار المشكلات فإن المصنع من شأنه إقامة سياج شجرى بتكلفة 4.5 مليون جنيه، بالتنسيق مع أساتذة كلية الزراعة يفصل بين المصنع وبين الحى الإماراتى المجاور له.

 

 

الغريب فى الأمر أنّه وبالرغم من حديث مسئولى المصنع أنّه لم يسجل أى إصابات بداخله، فقد شهد عام 2017 إصابات، ففى يناير من العام الماضى وقع حادث انفجار بمصنع تى سى أى سنمار للكيماويات، أسفر عن إصابة 8 من العمال المتواجدين بداخله بتشوه، نتيجة تسرب فى أحد "الكونترات" المتواجدة.

 

 

ولم تكن تلك الحادثة الوحيدة فى نفس العام، ففى إبريل؛ انطلقت صافرات الإنذار لتدوّى بأرجاء المكان بأكمله، وتكشف عن تسريب فى كافة الخطوط؛ بسبب الضغط الزائد فى أنابيب المصنع، مما دفع القائمين عليه إلى إخلائه من جميع العاملين؛ خوفّا من حدوث كارثة كبرى.

 

 

ولم ينته الأمر هنا أيضا بل فى مايو من نفس ذات العام، تسرب غاز (vcm) المسرطن بكميات كبيرة، وتبين عند محاولة تفادى الكارثة؛ عدم وجود «الطلمبة الاحتياطية»، التى كانت ستعمل على التخلص من الكميات المسربة؛ الأمر الذى كان على وشك أن يحدث كارثة كبرى ستخلف وراءها عشرات الضحايا.

 

محافظ بورسعيد: المصنع آمن ولا توجد مشكلة

وبالنسبة لمحافظة بورسعيد وعلى رأسها اللواء عادل الغضبان، والذى يعد المسئول الأول عن ماحدث لأهالى الحى الإماراتى بسبب إصرارهم على بناء المشروع السكنى أمام المصنع، فخرج هو الآخر ليكشف عن أنّ المصنع آمن ويسير وفقا للاشتراطات البيئية والصحية، معللا دعواه بأنّ العاملين بداخله منذ عشرات السنين لا يوجد لديهم أى مشكلة.

وكنوع من محاولة تهدئة الرأى العام، وغضب أهالى الحى الإماراتى عما حدث لأبنائهم من حالات اختناق، أعلن أنّه سيشكل لجنة بيئية جديدة، تضم خبراء فى مجال البيئة والسلامة الصحية، للكشف عن وجود تلوث فى المصنع من عدمه.

 

 

تقرير وزارة البيئة بالمحافظة كشف عن أن جميع القياسات والتحاليل لانبعاثات مصنع سنمار خلال الأيام الماضية كانت آمنة، وفى الحدود المسموح بها طبقًا للقانون رقم 4 لسنة 1994 الخاص بشئون البيئة فى مصر، ولذا فما يقال حول  تسرب غاز سام ماهو إلّا إدعاءات وفقّا لتقرير الشئون البيئية بالمحافظة.

 

 

وبالرغم من حديث المحافظ ومسئولى البيئة عن عدم وجود مشكلات، إلّا أنّ الدكتور هانى غنيم نائب محافظ بورسعيد- بحسب رواية عدد من العاملين بالمصنع- أثناء تفقده المصنع من الداخل بعد واقعة التسرب التى حدثت الأيام الماضية، كشف عن وجود تلفيات وتسرب من داخل أحد الكونترات المتواجدة، والتى وبالرغم من التسريب إلّا أنّها تعمل، وعلى الفور أمر غنيم القائمين على المصنع بإيقاف هذا الكنتور منعا من وجود كارثة كادت أن تحدث، وبسؤال القائمين أخبروه أنّ الكنتور الجديد سيصل بعد أسابيع ولا يمكن تعطيل الأجهزة لحين وصول الجديد لكنّ غنيم منعهم من استكمال تشغيله.

 

 

عز العرب: انبعاثات الكلور تسبب أمراضا مذمنة على المدى الطويل وخاصة للأطفال

الدكتور عز العرب، الطبيب بمنظمة الصحة العالمية، تحدّث عن أنّ مادة الـVCM المسرطنة، مادة شديدة الخطورة على الإنسان ولا يمكن لأحد أن يعيش بالقرب من مصانع إنتاجها، لذا فى حالة إنشاء مشاريع إسكان بالقرب من تلك المصانع، يجب أن يتوافر فى تلك المشاريع قبل إنشائها شروطا بيئية وأهمها أن تبعد بمسافات كبيرة عن المصانع التى تعد ملوثة للبيئة، كذلك أيضّا اتجاه الريح، فيجب وضع هذا الأمر فى الاعتبار فلو كان اتجاه الريح يتسبب فى انتشار الهواء الخارج من المدخنة ويدفعه ناحية المساكن حتى ولو كانت بعيدة وبالتالى لا يمكن وضع مواطنين هناك.

 

 

وتابع الدكتور عز العرب، أنّ حل هذا الأمر هو عمل اختبارات وتحاليل لمعرفة نسبة كثافة الكلور فى الهواء، ومعرفة هل هناك تركيزات متواجدة أكثر من المفروضة قياسيا أم لا، موضحّا أنّ الغريب فى الأمر هو تواجد مشروع إسكانى بالقرب من مصنع لإنتاج الكلور، حتى لو تم اتخاذ كافة الإجراءات البيئية السليمة، فانبعاثات الأدخنة التى تخرج من مصنع سينمار شديدة الخطورة على المناطق السكنية المجاورة وتحديدا الأطفال، خاصة وعلى حد قول عز العرب مادة الـVCM، شديدة الخطورة على الجهاز العصبى والتنفسى.

 

 

وأكد أنه على وزارة البيئة والصحة التحرك، إمّا للبحث عن مكان آخر لهؤلاء المواطنين، أو محاولة الرقابة على المصنع حتى لا تخرج منه مثل تلك الانبعاثات، والتى على المدى القريب تتسبب فى تهييج للجهاز العصبى وحساسية الصدر، نتيجة انبعاثات غاز الكلور، مشيرا إلى أنه يخشى أن يتطور الأمر وبالتأكيد سيحدث ذلك فلن تقتصر إصابة أهالى الحى وأطفالهم على الحساسية فقط، بل هناك أمراض أخرى مزمنة من الممكن إصابتهم بها على المدى الطويل.

 

 

وشدد على أهمية أن يبحث جهاز شئون البيئة كل تلك الأمور، وقياس تركز نسبة الكلور فى الهواء، وبيان ما إذا كانت هى المسموح بها دوليا أم لا.

 

 

أمين اتحاد خبراء البيئة العرب: القانون منع إقامة المشاريع السكنية بجوار المصانع.. والمواطنون فى خطر

الدكتور مجدى علام، أمين اتحاد خبراء البيئة العرب، علق على ما يحدث بالحى الإماراتى من انبعاث روائح نفاذة تسبب الاختناق وضيق تنفس لأهالى الحى، مؤكدا أنّه يجب على المواطنين تقديم شكوى لفرع وزارة البيئة بالمحافظة بشأن تلك الرائحة المنبعثة من داخل مصنع تى سنمار للبتروكيماويات، وحتى لو شكك فى تقرير المسئول من تلك الجهة، فيجب تشكيل لجنة من وزارة الصحة والبيئة والقوة العاملة والصناعة، لعمل قياسات من شأنها أن تحدد هل هناك بالفعل انبعاثات تخرج من المصنع أم لا؟، حتى ولو قامت كل جهة بالقياس بمفردها فى النهاية ستقارن كافة القياسات والنتيجة النهائية هى من ستحكم، ولا يمكن أن تكون جميع القياسات مخطئة، لذا لا يمكن الحكم عن طريق الرائحة فقط أو غيرها من الأسباب.

 

 

وأشار إلى وجود فرق كبير بين وجهات نظر الأشخاص وبين الأجهزة، فهناك أربع جهات ستقوم بعملية القياس ولا يمكن للخمس أن يخطئوا، وفى حال عدم وجود أى مشكلة واتفقت الجهات الأربع، حينها من الممكن البحث عن سبب آخر للتسريب فمن الممكن أن تكون مشكلة تلوث طبيعى ولا علاقة لها بتسرب غازات من المصنع.

 

 

وتابع علام، بأنّه لا يمكن حاليا بناء مصانع بالقرب من منطقة سكنية، بل على العكس فهناك اشتراطات حاليا لعدم بناء مصانع إلا بالمناطق الصناعية فقط، والتى تبعد عشرات الكيلو مترات عن المناطق السكنية، حتى المصانع القديمة والتى حاوطها العمران من كل جانب وضعت وزارة البيئة عدة شروط لها، حيث يجب على المصنع توثيق وضعه إذا كان ملوثا، وبالتالى فالحل فى يد المحافظ، ولذا يجب على الأهالى الضغط عليه لاستدعاء الجهات الأربع للقياس وعرض تقرير توثيق أوضاع المصنع، إذا كان هناك مصدر من مصادر التلوث ثبت بالقياسات، سواء كان تلوث غازات أو أتربة أو مياه.

 

 

ووفقّا لكلام أمين اتحاد خبراء البيئة العرب، والخبير البيئى، مجدى علام، فإنّه بالنسبة للمدخنة فهناك قانون يحدد نسبة الغازات التى تخرج من خلالها، أما لو كانت غير محددة وتخرج كافة مخلفات المصنع فالأمر في غاية الخطورة، وإذا ثبت عدم قانونية إجراءات السلامة البيئية التى يتبعها المصنع فبالتالى يتم إعطاؤه مهلة زمنية محددة لإعادة إصلاح تلك الأمور وإلا سيقع عليه عقاب شديد.

 

 

وبسؤال الخبير البيئى عن مادة الـVCM والتى تخرح من مصانع البلاستيك والبتروكيماويات، أشار إلى أن تلك المادة لا يمكن أن تظهر إلا عند عملية الحرق، وفى حالة خروجها من المصنع فبالتأكيد به عيب معين، تلك المادة حال انتشارها فى البيئة الخارجية دون سيطرة تسبب أمراضا عديدة للمواطنين، لأنها تعد مادة من ضمن مواد البتروكيماويات الخطرة.

 

وكيل وزارة الصحة: «ماعنديش أى بيانات أقولها.. ومش مسئول».. وطبيبة: «أنا كتبت تقريرى ومش هتكلم»

بعد حديث الأهالى لنا عن الإهمال الذى وجدوه داخل مستشفى ناصر فى بورسعيد، والتعامل غير الآدمى من قبل الأطباء معهم؛ حاولنا التواصل مع وكيل وزارة الصحة فى بورسعيد، الدكتور عادل تعيلب، والذى أخبرنا بأنّه لا يمتلك أى بيانات للحديث عنها،  بل أنه لا يعرف شيئا عن هذا الأمر وأن الدكتورة مروة حلاوة مدير الطب الوقائى هى المسئولة عن هذا الأمر.

 

 

وبالفعل تواصلنا مع الدكتورة مروة حلاوة، والتى تحدّثت معنا بطريقة سيئة فور سؤالها عن مصابى الحى الإماراتى الذين قدموا إليها منذ عدة أيام وأغلبهم من الأطفال مصابين بضيق تنفس، وذكر الأهالى بأنّ تلك الإصابات جاءت نتيجة استنشاق غازات سامة تنبعث من مصنع تى سنمار للكيماويات.

 

 

ورفضت الطبيبة الحديث وأخبرتنا أنّها قد أصدرت تقريرها، ونفت كافة الاتهامات التى وجهها إليها أهالى الحى الإماراتى؛ كونها رفضت إصدار تقارير طبية تخص حالة الأطفال، حتى يتقدموا ببلاغ إلى النيابة وقت ذهابهم مصابين إلى المستشفى.

 

 

وجاء تقرير الطبيبة مروة حلاوة- والذى تمّ تسريبه فيما بعد- بأنّ جميع الحالات الموجودة بالمستشفيات تم تشخيصها بـ"إصابة بضيق تنفس"، وليس اختناقا بالغاز السام، ولا توجد حالة تمّ دخولها المستشفى يشتبه كونها مصابة بغاز سام.

 

 

اقرأ أيضا