"البويطي" لسان "الشافعي"و"البابا كيرلس" البطريرك 112.. أبناء بني سويف في قلب التاريخ

الاثنين 23 سبتمبر 2019 | 02:58 مساءً
كتب : جمال عبد المنعم

على بعد ما يقرب من 130 كيلو متر جنوب القاهرة تقع محافظة بني سويف، على ضفاف نهر النيل، حيث تعتبر بوابة الصعيد، وتعد من محافظات شمال الصعيد حيث يحدها من الجنوب "المنيا" ومن الشمال "الجيزة" والفيوم غربا وشرقا البحر الأحمر، فلها طبيعة خلابة وموقع جغرافي متميز، خرج منها أعلام في شتى المجالات سواء كانت " سياسية، فنية، دينية، علمية.

شبكة أخبار "بلدنا اليوم"، تستعرض شخصيتين تاريخيتين صدرتهما بني سويف، من عشرات الشخصيات، التي سوف نذكرها تباعاً، فدخلا قلب التاريخ، هما: الإمام "أبى يعقوب يوسف بن يحيى البويطي"، الذى تولى مسئولية المذهب الشافعي بعد وفاة مؤسسه الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه.

ولد الإمام البويطي، في قرية "أبويط"، التابعة لدائرة مركز الواسطى، شمال محافظة بني سويف، في عام 160هجرية 782م، وقد رافق الإمام الشافعي منذ وفد إلى مصر عام 199هجرية، حيث إختصه الشافعي بحبه وصحبته وكان يعتمد عليه في الإفتاء ويستطلع رأيه فى المسائل الفقهية.

كان "البويطي" فصيح اللسان قوي البيان ناصع الحجة جريئًا في الحق، وقد روي عن الإمام الشافعي أنه قال: أبو يعقوب لساني، وربما جاء إلى الشافعي رسول صاحب الشرطة فيوجه أبا يعقوب البويطي ويقول هذا لساني، وذلك لردع المفسدين والإنكار على المجنة والفاسقين، الأمر الذي يجسد ثقة الإمام الشافعي القوية في ذكاء البويطي وجراءته، وقدرته على الرد والإقناع.

ألف الإمام البويطي، كتاب "المختصر" المشهور، والذي اختصره من كلام الشافعي رضي الله عنه، قال أبو عصام: هو في غاية الحسن، على نظم أبواب المبسوط، ولهذا الكتاب مكانة كبيرة في الفقه الشافعي، ومن الطرائف أن المختصر كان سببًا في تسمية أحد العلماء وهو أبو عبد الله النسوي الشافعي بالبويطي، فقد كان عنده مختصر البويطي في الفقه على مذهب الشافعي، فكان يقول قرأت البويطي، وكررت البويطي، فلقب بالبويطي.

محنته وجراءته وثباته:

يعتبر الحسد هو الباعث الرئيسي لمحنة الإمام البويطي، فقد كان رحمه الله وارث علم الشافعي وخليفته في مجلسه، وأكثر علماء مصر قبولا وهيبة وأتباعا.

كانت حلقته في المسجد أعظم الحلقات، ومجلسه حافل بالطلبة من مصر وخارجها، حتى صار تلاميذه بعشرات الآلاف في مصر وخارجها، ففي هذه الفترة كانت بدعة القول بخلق القرآن، قد بدأت تروج في المشرق الإسلامي، خاصة بعاصمة الخلافة بغداد، على يد المعتزلة الذين وجدوا دولة تحتضنهم، وسلطة ترعاهم، هي دولة الخليفة المأمون العباسي الذي كان يحب علوم الفلسفة والكلام والمنطق، دون بصيرة ولا آلة تكمنه من بيان الحق، والتفرقة بين الغث والسمين، فوقع في حبائل المعتزلة، واستولوا على عقله، ومجامع فؤاده، فصارت الدولة لهم، ومع الوقت حملوه على القول بخلق القرآن، ودعوة الناس لقول بها.

نظرا لوجود العلماء والفقهاء والمحدثين بكثرة وقتها في العراق، فقد وجد المأمون صعوبة في إقناع الناس بذلك، ولكن مع دخول سنة 218 هجرية، قرر المأمون حمل الناس على القول بهذه البدعة الكفرية، وإلزام الناس كافة بما فيهم العلماء والمحدثين والأئمة بالقول بها، لم يطل الأمر بالمأمون كثيرا ليرى ثمرة فعلته الآثمة، فمات من عامه ذلك، وتولى الخلافة بعده أخوه المعتصم وكان شجاعا عسكريا مشغولا بالفتوحات والغزو، ولكنه كان في نفس الوقت أميا جاهلا، فأوصاه أخوة المأمون بمواصلة إجبار الناس على القول بخلق القرآن، وبالفعل أجاب وصية أخيه، وكانت محنة الإمام أحمد الشهيرة.

وتوفي المعتصم سنة 227 هجرية، وخلفه نجبه، الواثق وكان أشد الناس اعتناقا بالبدعة، وأشدهم أيضا رغبة في نشرها، والسر في ذلك إستيلاء قاضي المحنة وإمام البدعة "أحمد بن أبي دؤاد الإيادي " عليه وثقته العمياء في هذا الشيطان المريد قد دفعته لإطلاق يديه في التصرف في هذا الشأن بالصورة التي تحلو له، ومن ثم كانت المحنة العامة لأهل السنة عامة، وللأئمة الأعلام خاصة.

استغل "أحمد بن أبي دؤاد" طاعة الواثق العمياء له، فوضع خطة واسعة من أحل نشر هذه البدعة بين المسلمين بشتى الطرق، فأقنع الواثق بضرورة تعيين كل القضاة والولاة والأئمة وجميع موظفي الدولة، حتى معلمي الصبيان في الكتاتيب ممن يقول بهذه البدعة، وتتبع كل من يقول بخلافها، والقضاء عليه والتنكيل به، ووصل الأمر لذروته بأنه قد أمر باختبار الأسرى المسلمين لدى الروم فمن قال منهم بخلق القرآن افتكه، ومن رفض تركه أسيرا لدى الروم في سابقة لم يعرف التاريخ مثلها من قبل.

نظراً لهذه السياسة الشنيعة تم تولية القاضي المعتزلي أبي بكر الأصم في منصب قاضي مصر، فلما دخلها هاله مكانة الإمام البويطي وطاعة الناس له، وكان البويطي جرئيا في الحق لا يبالي في سبيل ذلك ببطش طاغية.

كان البويطي أيضا سدا منيعا أمام انتشار هذه البدعة في مصر، فسعى به أبو بكر الأصم عند قاضي المحنة بن أبي دؤاد، وكتب إليه أن البويطي يحول بين نشر البدعة في الديار المصرية، فكتب بن أبي دؤاد إلى وإلى مصر وأمره بامتحان البويطي على خلق القرآن فإن أجاب وإلا وضعه في السجن، وكان الوالي محبا للبويطي، معظما لعلمه وورعه، ويكره أن يكون سببا في سجنه، فلما مثل البويطي بين يديه، أمر الوالي بإخلاء المجلس، وأبلغ البويطي بالأمر وقال له: "يا أبا يعقوب ابق على نفسك، وقل بالأمر سرا بيني وبينك، فأنا لا أملك مخالفة ابن أبي دؤاد، وأنت تعلم مكانه من الواثق ". فإذا بالأمام البويطي يضرب مثالاً رائعا في فهم مكانة الإمام، وطبيعة دوره في قيادة الأمة وقت الفتن والأزمات، حيث أبى الترخص في الأمر، وعمل بالعزيمة، وقال للوالي: "إنه يقتدي بي مائة ألف أو يزيدون، لا يدرون أني أتظاهر فقط بالموافقة، وإن أجبت أجابوا هم أيضا".

فلما علم الطاغية بن أبي دؤاد أمر بسجنه وحمله إلى بغداد في الحديد الثقيل وذلك سنة 233 هجرية، ويصور لنا الربيع بن سليمان مشهدًا بقدر ما يكشف لنا عن بشاعة التعذيب الذي واجهه البويطي بقدر ما يكشف لنا عمق الإيمان، وقوة الإصرار والصلابة والثبات للنفس المؤمنة التي ترفض الإقرار إلا بما يمليه الضمير، وتأبى إلا أن تكون قدوة في التمسك بالحق مهما كان الثمن، ومهما عظمت التضحية، يقول الربيع بن سليمان: رأيت البويطي على بغل، في عنقه غل وفي رجليه قيد، وبين الغل والقيد سلسلة من حديد فيها طوبة وزنها أربعون رطلاً، وهو يقول: إنما خلق الله – سبحانه – الخلق بِكُنْ، فإذا كانت كن مخلوقة فكأن مخلوقاً خلق مخلوقاً، فوالله لأموتن في حديدي حتى يأتي من بعدي قوم يعلمون أنه مات في هذا الشأن قوم في حديدهم، ولئن أدخلت عليه لأصدقنه يعني الواثق، فانظر إلى أمانة العالم وحرصه على الدفاع عن الحق وتبليغ رسالته حتى في أحلك الظروف.

حمل البويطي من الفسطاط إلى بغداد في القيود والأغلال، وهي مسافة طويلة تستغرق عدة أسابيع، ومع ذلك كان طوال الرحلة آمارا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، مرشدا واعظا، معلما مربيا، لكل من مر عليه من المسلمين، مما زاد من حنق ابن أبي دؤاد عليه، فلم يمتحنه مثلما فعل مع غيره، ولم يدخله على الخليفة كما هي العادة مع كبار العلماء، خشية أن يقنع الواثق بالحق، فقد كان البويطي في هذا الوقت من أعلم أهل الأرض وأكثرهم فقها. فأمر ابن أبي دؤاد بإلقائه في غياهب السجون مباشرة. ظل البويطي في غياهب السجون لشهور عديدة مثالاً للعالم الرباني، يوسفي السيرة والمسيرة، صلاة وذكر وعبادة وقراءة وتضرع، وتعليم للمساجين، ومناظرة للمبتدعة الذين كان يرسلهم لطاغية كل يوم من أجل مناظرة البويطي في المسألة.

وفي سجن أبي يعقوب نرى مشهدًا آخر يرقق الأفئدة، ويعظم من مكانة هذا الرجل حيث يشعرنا بعمق إيمانه، وقوة صلته بالله – عز وجل -؛ فقد كان أبو يعقوب إذا سمع المؤذن وهو في السجن يوم الجمعة اغتسل ولبس ثيابه ومشى حتى يبلغ باب الحبس فيقول له السجان: أين تريد؟ فيقول: حيث داعي الله فيقول: ارجع عافاك الله، فيقول أبو يعقوب: اللهم إنك تعلم أني قد أجبت داعيك فمنعوني.

هذه الأحوال الربانية، والثبات العجيب زاد في غضب ابن أبي دؤاد، وحقده وغله على البويطي، فأمر بتشديد الأغلال والقيود عليه، فلفوه كله بالحديد، حتى لم يعد قادرا على الحركة إلا بصعوبة كبيرة. أثر ذلك التشديد في نفسية الإمام تأثيرا بالغا، فقد عرف الطاغية أن يناله في مقتل، ويضيق عليه في أعز ما يملك؛ الصلاة وقيام الليل والعبادات، فكان الإمام يعاني من صعوبة بالغة في الحركة ودخول الخلاء والتطهر للصلاة، ولنقرأ هذه الرسالة المؤثرة التي أرسلها من محبسه إلى الإمام الذهلي وهو من كبار علماء الحديث في خراسان واصفا حاله، فكتب له يقول: " يا أبا يحيي قل لإخواني أصحاب الحديث، وطلبة العلم أن يدعو الله تعالى أن يفك كربتي، فلقد كبلوني بالحديد حتى أني لم أعد أتطهر وأصلي كما ينبغي، عسى الله أن يفرج عني ما أنا فيه بدعائهم ". فلما قرأ الإمام الذهلي الرسالة على المجلس بكى وبكوا جميعا وضجوا له بالدعاء.

ظل البويطي يدعو الله أن يخلصه من هذا الكرب العظيم بعد أن عجز عن الحركة ودخول الخلاء والصلاة من القيود والأغلال، وسرعان ما جاء الفرج، كأن أبواب السماء كانت مفتوحة عند دعائه، فجاء الفرج سريعا من رب السماء إلى عبده ووليه البويطي، وأخرجه الله – عز وجل – من السجن الكبير، أخرجه من سجن الدنيا التي لاقى فيها من أهلها الظلم والعنت والحسد والحقد والوشاية، أخرجه المولى سبحانه إلى الأفق الرحب، والسعادة السرمدية، والراحة الأبدية، أخرجه إلى جنات عرضها السموات والأرض ــ فيما نحتسبه على الله ــ ومات البويطي في محبسه وقيوده وأغلاله، وأمر أن يدفن في قيوده لا تفك عنه، ليخاصم أعداءه أمام الله تعالى يوم القيامة، وخرجت روحه الطاهرة منتصرة على خصومه الذين لم ينالوا إلا من دنياه. وهكذا العلماء الربانيون، ثابتون على الدرب، صامدون أمام الباطل، غير مبالين بضغوط ولا إغراءات، فما عند الله عز وجل خير، وأبقى، ولكن أكثر علماء الزمان لا يعلمون.

أما الشخصية الثانية فهو، أول رئيس للكنيسة المصرية من أبناء بني سويف، وعرف بعلمه وزهده ووطنيته وكان له دوره الشعبي وتكاتف الكنائس مع المساجد.

رفض حماية قيصر روسيا لأقباط مصر، هو "البابا كيرلس الخامس"، الذي ولد في قرية تزمنت الشرقية، التابعة لدائرة مركز بني سويف، عام سنة 1824 م، من أبوين تقيين فسمياه يوحنا وربياه أحسن تربية وأنشأه على الآداب المسيحية وكان ذا ميل شديد إلى الدراسة في الكتاب المقدس وأخبار القديسين. وكان عضواً بمجلس الشورى وكان له جهاده المشهور مع سعد زغلول، وتوفى وعمره 103 عاماً.

البابا كيرلس الخامس، كان راهبًا ناسكًا قديسًا بدير السيدة العذراء الشهير بالسريان بوادي النطرون ثم انتقل إلى دير البراموس وهناك رسموه قسًا ثم قمصًا.

ذاعت فضائله من علم وحلم وتقوى، فرسم بطريركًا في 23 بابه 1591 ش.

ازدادت الكنيسة في عصره بالقديسين والعلماء مثل الأنبا ابرآم مطران كرسي الفيوم حبيب الفقراء، والإيغومانس فيلوثاؤس إبراهيم رئيس الكنيسة المرقسية الكبرى، والأب العالم الجليل القمص عبد المسيح صليب البراموسي، والشماس حبيب جرجس مدير الكلية الإكليريكية.

بذل البابا أقصى جهده في النهوض بشعبه إلى أرقى مستوى، كما اهتم بطبع الكتب الكنسية وتنيَّح بسلام بعد أن قضى على كرسي البطريركية اثنتين وخمسين سنة وتسعة أشهر وستة أيام، وذلك في اليوم الأول من شهر مسرى سنة 1643 ش.

نياحة البابا القديس كيرلس الخامس بابا الإسكندرية المائة والثاني عشر (1 مسرى)

وفي 7 أغسطس سنة 1927 مح، تنيَّح الأب التقي الجليل البابا كيرلس الخامس المائة والثاني عشر من باباوات الكرازة المرقسية.