عاطف صبيح يكتب: هل الاحتفال بالمولد النبوي بدعة؟ قراءة في آراء السلفيين والصحابة وشراح الحديث

كلما أطلَّت علينا إشراقة المولد النبوي الشريف استلَّ أصحابُ التوجُّه اليتيمِ سيوف الأدلة الفقهية (المُسلَّمة والحِكْر عليهم) في وجه معارضيهم، ورموا كل من يناقشهم في جواز الاحتفال بمولد النبي بمنجنيق التجهيل والتسفيه؛ لأن قناعاتهم بأنه بدعة، وكل بدعة ضلالة، ويسوقون في سبيل ذلك أدلة، وما هي بأدلة.
أذكر أن أحد أئمتهم في إحدى دول الخليج (الحُجَّة) فكَّر وقدَّر، ثم تَفتَّقَ ذهنُه بكمية أدلة على تحريم الاحتفال بـ مولد النبي، مُطرَّزة بقاموس من السباب والتسفيه بين طَيَّات مجهود بحثي كان الأجدر أن يبذله فيما ينفع الأمة، خاصة وأن عشقه للتحريم يمكن أن يُشبِعَه بقضايا لا حصر لها في وطنه.
المدهش أن أمثال هذا العلاَّمة المتصدرين للفتوى لم يقرءوا ألف باء فقه وأحكام، رغم أن مسألة الاحتفال بمولد النبوي، وفقًا لعلم أصول الفقه، لا دخلَ للأحكام الشرعية بها، وحتى الأحاديث التي يحتجون بها لم يكلفوا أنفسهم مشقَّة قراءة شروحها من العماء الثقات.
وألف باء فقه وأي علم هو التعريف اللغوي والاصطلاحي للكلمة "بدعة"، ومتى تُطلَق كلمة "حرام"، وبما أن مركز الدائرة لبناء أحكامهم في قضية المولد النبوي هو كلمة "بدعة"، فإن وجهتنا البحثية تبدأ مِن قائل هذه الكلمة، وهو الرسول صلى الله عليه، ففهم الصحابة للكلمة، ثم شروح علماء السلف (الحقيقي) لها.
فما هي البدعة كما فهمها الصحابة وعلماء السلف؟
البدعة وردت في الحديث النبوي "وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار"، ولا خلاف عند مُتسلِّفي هذا الزمان على ابن حجر العسقلاني شارح صحيح البخاري، والإمام النووي شارح صحيح مسلم؛ لذا سنعرف ماذا قالا في تعريفهما للبدعة.
الإمام النووي أوضح أن البدعة في العبادات لا العادات بقوله: "والحق أن البدعة كمصطلح هي البدعة الشرعية، فكل بدعة بهذا المعنـى فـي ضـلالة بنص الحديث الصريح الصحيح"، وأضاف "ويؤيد ما قلناه قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في التراويح: نعمت البدعـة".
هل الاحتفال بالمولد النبوي من العادات أم العبادات؟
معلوم لدى كل دارس للشريعة أن العادات توفيقية والعبادات توقيفية، فالعادات الأصل فيها الإباحة حتى يرد نص قاطع بالتحريم، وإلا فكل صغيرة وكبيرة في أمور حياتنا تحتاج إلى نص لممارستها إلى يوم القيامة؛ حتى لا تكون عيشتنا ضلالاً في ضلال.
والعبادات الأصل فيها ورود نص لكي نؤديها. إذن فالأصل في الاحتفال بالمولد النبوي هو الإباحة؛ لأنه عادة وليس عبادة، حتى يرد دليل قطعي بتحريمه، فهل عثر مولانا على هذا الدليل؟
والمفاجأة أنه حتى في العبادات هناك بدعة حسنة، وهو ما استشهد به النووي في قول عمر بن الخطاب (الذي صدَّقه القرآن) للصحابة عندما ابتدع أداء صلاة التراويح في المساجد: "نِعْمَت البدعة".
لذا قسَّم الإمام الشافعي البدعة إلى محمودة ومذمومة، واعتمدها من جاء من بعده من علماء الأمة، ومنهم العز بن عبد السلام والنووي والقرافي والحافظ ابن حجر شارح صحيح البخاري، والذي نقل عن العز بن عبد السلام سلطان العلماء أن هناك بدعة مندوبة، وهي كل إحسان لم يعهد عينه في العهد النبوي.
الرسول يُقِرُّ أسوأ عيد في الجاهلية
ولأن أدلة أدعياء السلفية لا حصر لها سنردُّ على أقواها، وهو أن الصحابة لم يحتفلوا بمولد النبوي، ونسأل: هل كل شيء لم يفعلوه حرام؟! وهل كانت جزيرة العرب تعرف شيئًا اسمه عيد الميلاد؟ ألم يصادفهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنَّ لكلِّ قومٍ عيدًا"؟
أتدرون فيمَ قال هذا الحديث؟ في احتفال جاريتين من الأنصار داخل منزله وبحضور السيدة عائشة بيوم بعاث. أتدرون ما هو يوم بعاث؟ يوم انتصار الأوس على الخزرج بعد حرب دامت 120 سنة، وعندما دخل أبو بكر الصديق وأنكر الغناء في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، ردَّ عليه بنص الحديث: "يا أبا بكرٍ إنَّ لكلِّ قومٍ عيدًا وهذا عيدُنا".
ومن الأدلة الدامغة لأدمغتهم التي أنقلها بالنص من مجلد لأحد علمائهم الكبار "لو كان الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم من مظاهر محبَّته ولم يرشدنا إليه، فقد قصَّر صلى الله عليه وسلم وحاشاه".
وهنا نسأل: هل سيأمرنا رسول الله بتعظيمه؟! وهل محبة الصحابة له بناءً على توجيهات وتعليمات ونصوص وأدلة وأحكام؟!! وهل عدم أمر الرسول لنا بتعظيمه يُحرِّم هذا الأمر؟ ألم يعظِّم الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين.. يوم مولده، وقال "ذلك يوم وُلِدْتُ فيه"؟ وألم يُخصِّص يومًا يا من تُحرِّمون تخصيصه؟
الاختلاط مصطلح اخترعه سلفيو العصر
ومن أدلتهم النفسية لا الفقهية أن الاحتفال يوجب الاختلاط بين الرجال والنساء، ولا أدري هل مُنظِّم الحفل هو من أخبره به، أم ماذا؟ وهل هذا المصطلح المُحوَّر (الاختلاط) موجود في كتب علماء السلف الصالح؟ ما ورد هو "الخلوة" لا الاختلاط.
الاختلاط في عصر الرسول
ليت مولانا يفتح كتب الفقه، ويقرأ عن ترتيب الصفوف في الصلاة، سيجد أن النساء يصلين خلف الصبيان بدون حواجز، ويسأل نفسك: هل اختراع الحائط أو الستارة لم يكن قد ظهر في عهد النبوة؟
ألم يقرأ مولانا أن النساء كن يحضرن دروس رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الرجال في المسجد، حتى طلبن منه أن يخصص لهن يومًا؛ لأن الرجال تزاحمهن، ففعل؟
ألم يقابله الحديث الذي رواه مسلم عن أنس أن "عائشة وأم سليم كانتا في يوم أحد مشمِّرتين، تنقلان القرب على متونهما وظهورهمـا، ثم تفرغانهـا في أفواه القـوم"؟ وماذا عن الاختلاط في الجمعة والحج وصلاة العيدين؟
هل الاحتفال بمولد الرسول يرفعه لمرتبة الربوبية؟!!
ومن طرائف أدلتهم النفسية أيضًا أن الاحتفال يؤدي إلى الغلو في الرسول الله ورفعه من مرتبة النبوة إلى مرتبة الربوبية، فهل يحتفل المسلمون بمولد الإله؟! وهل الإله مولود؟! وهل لو احتفلنا بذكرى وفاة الرسول سيكون الاحتفال بعيد القيامة؟! وما علاقة كل هذا بالحكم الفقهي؟ هل استخدام السكين في القتل يرفعها من مرتبة تقطيع الخضراوات إلى مرتبة الذبح، فتحرمها؟
ومن الخلط المنهجي قوله إن الاحتفال بالمولد النبوي يكون باتباع سنته؛ لأن الأمر هنا أمر حكم فقهي لا آداب، وكونك تضع آدابًا للاحتفال فأنت تُقِرُّ به، فلا يمكن أن تتكلم عن آداب الربا مثلاً لأنه أصلاً حرام.
مولانا يجعل نفسه مصدر تشريع
والطامة الكبرى في قوله بالنص "فصوموا أنتم يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم احتفالاً"؛ لأن الأمر يتعدى تناقضًا منهجيًّا بإقرارك الاحتفال إلى جعل نفسك مصدر تشريع بأمر المسلمين بالصيام.. تشريع في أمر توقيفي كما ذكرنا، تخيَّل أن الرسول نفسه كان يصوم يوم الاثنين، ولم يأمر أحدًا بصيامه، وأنت تتجرأ، وتشرِّع؟!
أطالبك بتنفيذ فتواك على نفسك
وفي الختام أفاجئك بأني أوافقك الرأي؛ لذا أطالبك ألا تركب سيارة، وألا تُدخل في بيتك تكييفًا، وألا تستخدم الهاتف وألا وألا وألا؛ لأنها حسب أدلتك التي أفحمَتْني لم يأمر الرسول بها، ولم يفعلها الصحابة ولا السلف ولا التابعون؛ وبما أن إذن فهي بدعة وضلالة وفي النار.