بمناسبة المولد النبوي.. شيخ الأزهر يقدم التهاني للأمة الإسلامية

بمناسبة ذكرى مولد سيدنا محمد ﷺ، تقدَّم فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، اليوم الأربعاء، بأطيب التهاني وأصدق التبريكات إلى السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، رئيس جمهورية مصر العربية، وإلى الشعب المصري، وإلى الأمتين العربية والإسلامية، شعوبًا وحكّامًا، وذلك بمناسبة الذكرى السنوية لمولد خير الخلق وأكرمهم وأرحمهم وأعظمهم، سيدنا محمد ﷺ، وعلى سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين.
احتفالية ذكرى المولد النبوي الشريف
وأوضح شيخ الأزهر، في حديثه اليوم بمناسبة الاحتفالية الكبرى بذكرى المولد النبوي الشريف، والتي شارك فيها الرئيس عبد الفتاح السيسي، أن ميلاد سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام ليس مجرد مولد قائد من القادة، أو عظيم من العظماء، أو مصلح، أو زعيم من الزعماء، أو فاتح مغوار، بل كان كل ذلك وأكثر.
فقد جمع في إهابته النبوية الشريفة حظًا عظيمًا وسهمًا أوفر. والحقيقة في ميلاده – صلوات الله وسلامه عليه – أنه ميلاد «رسالة إلهية خاتمة» أرسل بها سيدنا محمد خاتم الأنبياء، وكلف أن يدعو إليها كافة الناس في مشارق الأرض ومغاربها «بدعوة واحدة هي التوحيد بالله، وعلى سنة المساواة بين كافة الشعوب والأعراق».
السَّلَامُ عَلَيْكُم وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه.. وبعد؛
في بداية كلمتي، يُسعدني أن أتقدم إليكم - سيادة الرئيس! - وإلى شعب مصر الكريم، وإلى الأمتين: العربية والإسلامية، شعوبًا وحكامًا، بأطيب الأماني بحلول ذكرى مولد خير الناس وأكرمهم وأرحمهم وأعظمهم: سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين.
سيادة الرئيس! الحفل الكريم!
إن أول ما نستروحه من نسائم هذه الذكرى الكريمة ومن نفحاتها، هو أن الاحتفال بها هذا العام هو احتفال بذكرى ضاربة في جذور الأزمان والآباد، أمدها طويل، ذكرى مرور ألف وخمسمائة عام على مولده ﷺ.
يحدثنا التاريخ بأن عليه الصلاة والسلام نزلت عليه الرسالة الإلهية وهو في سن الأربعين، وقضى بمكة المكرمة ثلاثة عشر عامًا يدعو الناس إلى دين التوحيد، ثم هاجر بعدها إلى المدينة المنورة، وعمره الشريف آنذاك ثلاثة وخمسون عامًا قمريًا، وقد مكث صلى الله عليه وسلم عشرة أعوام في المدينة المنورة، ثم لقي ربه بعد ذلك حين كان عمره ثلاثة وستين عامًا.
ويتبيّن من كل ذلك أن ذكرى المولد في عامنا هذا هي الذكرى المئوية التي يكتمل بها مرور ألف وخمسمائة عام على مولده ﷺ، وأن هذه الذكرى لا تتكرر إلا على رأس كل مائة عام من عمر الزمان.
ولعلها بشارة لنا معشر أبناء هذا الجيل – عسى الله أن يفرج بها كرب المكروبين وغم البؤساء والمستضعفين، برحمتك يا أرحم الراحمين، وبالرحمة التي أرسلت بها رسولك إلى العالمين.
هذا، وإن من واضحات الأمور وبدهياتها أن مولده صلى الله عليه وسلم ليس بميلاد زعيم من الزعماء أو عظيم من العظماء أو مصلح أو قائد أو فاتح مغوار، وإن كان كل ذلك وأكثر منه قد جمع له في إهابه النبوي الشريف، وله منه الحظ الأوفى والسهم الأوفر.
وحقيقة الأمر في ميلاده - صلى الله عليه وسلم - أنه ميلاد «رسالة إلهية خاتمة» أرسل بها نبي خاتم، وكلّف أن يدعو إليها كافة الناس في مشارق الأرض ومغاربها «بدعوة واحدة، وعلى سنة المساواة بين الشعوب والأجناس»، وقد أكد القرآن الكريم هذه الحقيقة في قوله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13].
وقوله سبحانه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [سبأ: 28].
كما أكدها هو نفسه في قوله صلى الله عليه وسلم: «أُرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون».
وإذا كانت دعوة هذا النبي الكريم من السعة بحيث تتسع لخطاب العالمين على اختلاف أزمانهم وأماكنهم وأحوالهم وطاقاتهم، فإن من المنطقي أن يسبق ذلك إعداد خاص للنبي الداعي بهذه الدعوة، في طاقاته الروحية والجسدية، حتى يتمكن من النهوض بالعبء الثقيل الذي سيُلقى على كاهله الشريف، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا﴾ [المزّمّل: 5-6].
ولقد كانت صفة «الرحمة» من بين سائر الصفات التي تحلّى بها النبي، وبما هي رحمة للعالمين أجمعين، فهي الأنسَب والأشبه بالدعوة العابرة لأقطار الدنيا، والمتعالية فوق حدود الزمان والمكان، وهي التأهيل الذي يشاكِل الرسالة في عمومها وعالميتها.
وإذن، فها هنا دعوة عامة عالمية، ترافقها رحمة عامة عالمية تسع الناس بكل ما انطوت عليه أخلاقهم، وحظوظهم من الخير والشر، والبر والفجور، والعدل والظلم، والهدي والضلال، والطاعة والمعصية، وما شئت من هذه الثنائيات التي توزعت عليها طباع بني آدم وتصرفاتهم ومعاملاتهم.
وإذا كنا نقرأ في القرآن الكريم: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ﴾ [سبأ: 28]، فإننا نقرأ فيه أيضًا: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107].
كما نقرأ قوله تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [التوبة: 128].
وقوله سبحانه: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ﴾ [آل عمران: 159].
ونقرأ في سنته الشريفة: «إنما أنا رحمة مهداة».
الحضور الكريم!
إن من يتأمل في سيرة هذا النبي الرحيم يدرك - بوضوح وجلاء - أن صفة «الرحمة» هي أخصّ خصائص صفاته التي صدرت عنها كل أفعاله وأقواله وتصرفاته مع أهله وأصحابه وأصدقائه وأعدائه على امتداد عمره الشريف.
وإذا كان إثبات هذه الدعوى أو الاستشهاد عليها من سيرته ﷺ أمرًا يخرج عن حدود طاقة البحث، فإن ما يجدُر في هذه المناسبة هو قوانين «الحرب» التي رسخها نبي الإسلام محمد ﷺ، وكيف جاءت مصدقة للآية الكريمة:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107].
وخلاصة القول في هذا المقام هي أن «الحروب» منذ القدم وحتى يوم الناس هذا هي ساحة للعنف والعدوان والقتل المتبادل من الطرفين المتحاربين.
هذا، ومما يمكن أن يُلمَّ به المتعجِّل من أحكامٍ في هذه الموسوعة النفيسة: أنَّ القتل في الإسلام هو -حصرًا- لدفع الاعتداء، وأنَّ الأصل في العلاقة بين المسلمين وغيرهم هو السلم، إلى أن يقع عليهم اعتداء أو ظلم، فتكون الحرب -حالتئذٍ- أمرًا لا مفر منه حمايةً للفضيلة من أن تتغوّل عليها الرذيلة، وسوء التصرف ودناءة الخلق: ﴿أُذِنَ للذين يُقاتَلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله﴾ [الحج: 39-40].
ومما أجمع عليه فقهاء المسلمین -في فقه الحروب- حرمة الإسراف في القتل والتخريب والتدمير والإتلاف، ووجوب أن يكون القتال محصورًا في دائرة رد "الاعتداء" لا يتجاوزها إلى التشفي أو الإبادة أو الاستئساد الكاذب، فكل هذه جرائم وخبائث في قتال العدو: ﴿وقاتلوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين﴾ [البقرة: 190].
وفي هذه الآية أمر بأن تكون الغاية من قتال العدو هي: سبيل الله، أي: شرعه وحكمه في مقاومة العدوان والظلم والعسف والغطرسة والاستعلاء على الآخرين، وألا يكون القتال وسيلة لمطامع دنيوية حقيرة، من استعمار أو تسلّط أو انقضاض على أرض الغير، أو بسط السيطرة على مقدّرات الآخرين وثرواتهم، أو غير ذلك من الأسباب والدواعي التي أشعلت -ولازالت- تُشعل الحروب العبثية الجائرة في القرنين العشرين والواحد والعشرين، قرني التقدم التقني والعلمي والرفاهية والسلام وحقوق الإنسان، وغيرها من كواذب الأساطير وأوهام الأباطيل.
وفي الآية أيضًا نهي عن الإسراف والزيادة في إزهاق الأرواح، فهذا عدوان يكرهه الله تعالى ويمقته ويحرمه: ﴿وإن عقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به﴾ [النحل: 126].
ومما يلفت النظر في شريعة الإسلام في الحروب احترام آدمية العدو وإنسانيتَه، سواء كان يقتل أو يُقتل، يتضح ذلك من دعائه ﷺ قبل بدء القتال، والذي يقول فيه: «اللهم إنا عبادك وهم عبادك، نواصينا ونواصيهم بيدك، اللهم اهزمهم وانصرنا عليهم».
وانظروا -حضراتكم- إلى هذا النبل الإنساني العجيب في مراعاة "الأخوّة الإنسانية" والاعتراف للعدو بأنه شريك للمسلمين في الخلق وفي العبودية لله تعالى، وأن له حقوقًا تجب مراعاتها حتى وهو يبذل مهجه دفاعًا عمّا يؤمن به ويعتقده، وأنه لنبل يندر، بل يستحيل، أن يستقل به أو يطيقه قلب غير قلب هذا النبي العظيم ﷺ.
وفي هذا المجال تعلمون، حضراتكم، حرمة قتل العدو الذي لا يشارك في القتال ولا يحمل السلاح في المعركة، كالأطفال والنساء والشيوخ ورجال الدين في الصوامع والأديرة، والعجزة والزراع وغيرهم، كما يحرّم تدمير المنشآت والمباني وتخريبها، وبخاصة دور العبادة والمستشفيات ودور التعليم والمنافع العامة، وغيرها مما هو معلوم للجميع.
وخلاصة القول في هذا الموضوع البالغ الدقة، ما قاله أديب اللغة العربية مصطفى صادق الرافعي: "إن المسلمين في معاركهم يحملون السلاح ويحملون معه الأخلاق، فمن وراء أسلحتهم أخلاقهم، وبذلك تكون أسلحتهم نفسها ذات أخلاق"، وينتهي إلى ما يشبه الحكمة فيقول: "إن لسيوف المسلمين أخلاقًا".
الحفل الكريم!
ليس القصد من وراء هذه الكلمة الموجزة عن "الحرب" في الإسلام هو المقارنة بين حروب المسلمين وحروب عصرنا الحاضر، ودواعيها وبواعثها، وما تبثه الفضائيات من مشاهدها الشديدة القسوة في غزة أو أوكرانيا أو السودان الشقيق أو أقطار أخرى تُجر إلى حروب لا ناقة لها فيها ولا جمل.. ذلكم أن المقارنة بين أمرين تقتضي اشتراكهما في وصف أولًا، قبل أن يثبت رجحان أحدهما على الآخر في هذا الوصف، وهذا الاقتضاء مفقود فيما نحن بسبيله، فأي مقارنة تصح بين نظام يحرّم قتل أطفال عدوه، ويحمل جنوده مسؤولية الحفاظ على حياتهم، ونظام يحرص على تجويع أطفال غزة حتى إذا ما التصقت جلودهم بعظامهم استدرجهم دعاة الديمقراطية وحقوق الإنسان إلى حيث يصب على رؤوسهم من جحيم المتفجرات ما يحيل أجسامهم النحيلة إلى تراب أو إلى ما يشبه التراب؟! وهل يصح في عقل العقلاء وحكمة الحكماء أن تُعقد مقارنة فيما يقول الإمام الشيخ أبو زهرة، بين الخير والشر، أو بين النور والظلمة، أو بين الفضيلة والرذيلة؟! ورحم الله المتنبي وهو يقرر هذا المعنى شعراً في قوله: ألم تر أن السيف ينقص قدره * إذا قيل: إن السيف أمضى من العصا.
الحضور الكريم!
لقد آن الأوان لتذكّر دروس الماضي والاتعاظ بأحداث التاريخ في هذه المنطقة، وعلى أرض فلسطين الأبية الحافلة بتاريخ من النضال والصمود، حين احتلها الصليبيون قرنًا كاملًا، وقتلوا الآلاف من المسلمين والمسيحيين واليهود، وأقاموا الولايات الصليبية، حتى إذا ما اتحد العرب والمسلمون واصطفوا خلف القائد البطل صلاح الدين عاد الصليبيون من حيث أتو وعادت الأرض إلى أصحابها.
وما أظن أن أحدًا يرتاب اليوم في أن الحل الذي لا حل سواه هو في تضامن عربي يدعمه تضامن إسلامي يقويه ويسند ظهره.. نقول هذا ونؤكد في الوقت نفسه أننا -علم الله- لسنا دعاة حروب أو صراعات، بل نحن دعاة عدالة وإنصاف واحترام متبادل، وكيف لا وقد نهى نبينا الكريم ﷺ أن نتمنى لقاء العدو، وأمرنا أن نسأل الله العافية منها، والعدل والسلام اللذان ندعو إليهما هما: العدل والسلام المشروط.
اقرأ ايضًا..
الاحتفال بالمولد النبوي 2025.. رمضان عبد المعز يدعو لاتباع أخلاق الرسول
المولد النبوي الشريف 2025.. موعد الإجازة الرسمية وأسعار الحلوى وحكم الاحتفال من دار الإفتاء