من الطقس الشعبي إلى الفضيحة الرقمية.. ماذا تكشف «البِشْعَة»؟
لم يكن انتشار مقطع «البِشْعَة» على مواقع التواصل مجرد ضجة عابرة سرعان ما تخفت، بل تحول إلى لحظة كاشفة لواقع صادم ظل طويلًا حبيس الهامش.
مشهد واحد أعاد إلى الواجهة ممارسة عرفية قاسية، وكشف كيف يمكن لعادة قديمة أن تعود بقوة حين تلتقي سلطة الجماعة مع سطوة الكاميرا، لتتحول الطقوس المغلقة إلى فضيحة رقمية مفتوحة على أسئلة المجتمع والدولة معًا.
ورغم تكرار ظهور بعض الممارسات العرفية في مناطق ريفية وحدودية، يؤكد مختصون أن «البِشْعَة» تمثل انتهاكًا صريحًا لكرامة الإنسان، واستبدالًا خطيرًا لمنظومة العدالة الرسمية بطقوس لا تقوم على دليل أو منطق.
هذا الجدل الواسع دفع المؤسسات الدينية إلى التدخل العاجل لحسم الموقف، ووضع حد لأي محاولة لتبرير هذه الممارسة أو تغليفها بغطاء ديني.
ويقوم طقس «البِشْعَ»، على لعق أداة يتم تسخينها على النار، فإذا ما شعر الشخص بالألم ثبت كذبه، وإذا لم يشعر تمت تبرئته من الجُرم المسنود إليه.
جريمة دينية وإنسانية
حسن مركز الأزهر العالمي للفتوى الشرعية الجدل الدائر، مؤكدًا أن «البِشْعَة» ممارسة جاهلية لا تمت لمنظومة العدل في الإسلام بصلة، بل تُعد جريمة دينية وإنسانية.
وأوضح المركز، أن الشريعة الإسلامية أقامت العدالة على قواعد تحفظ الحقوق وتصون كرامة الإنسان، بينما تعتمد هذه العادة على الإكراه والإذلال، دون أي سند من بيّنة أو دليل شرعي، ما يضعها في إطار الدجل والخرافة.
وشدد الأزهر، على أن هذه الممارسة تنطوي على تعذيب جسدي ونفسي، وهو ما تحرمه الشريعة تحريمًا قاطعًا، مستشهدًا بالنهي النبوي عن التعذيب بالنار أو التمثيل بالإنسان، كما حذر من تداول مقاطع أو صور تروج لهذه الطقوس، لما تمثله من تطبيع مع العنف وإحياء لممارسات تُهدر كرامة الإنسان وتترك آثارًا اجتماعية ونفسية خطيرة.
لا أصل لها في الشرع
من جانبها، أكدت دار الإفتاء المصرية أن «البِشْعَة» لا أصل لها في الشريعة الإسلامية، وأن الاحتكام إليها لإثبات البراءة أو الإدانة أمر باطل ومحرم، وبينت أن الإسلام وضع منظومة واضحة للفصل في النزاعات تقوم على البيّنات المعتبرة والتحقيق العادل، لا على الإيذاء أو التخمين.
وأوضحت الإفتاء، أن إلزام شخص بملامسة أو لعق أداة محماة يُعد صورة فجة من صور الاعتداء على النفس، يتعارض بشكل كامل مع مقاصد الشريعة التي جاءت لحفظ النفس وصون كرامة الإنسان.
ودعت إلى مواجهة هذه الظواهر بالوعي المجتمعي، والتأكيد على أن القضاء الرسمي هو المرجعية الوحيدة للفصل في النزاعات وحماية الحقوق.
أمر شعبي عند العوام
من جانبه، أكد الدكتور أحمد كريمة، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر الشريف أن البشعة هي أمر شعبى عند العوام لا أصل له ولا سند ويماثل الخرافات، ولا علاقة لها بالشريعة الإسلامية.
وأوضح كريمة، أن البَشعة ليست وسيلة لإثبات أو نفي جرائم بعينها، وليست من وسائل الإثبات أو النفي القضائي، مؤكدًا أن الأصل فى القضاء الإسلامى لا يوجد ما يطلق عليه "البِشْعَة" لأن النبى وضع قاعدة قضائية محكمة، وهى "البنية على المدعى واليمين على من أنكر".
جيوب اجتماعية مغلقة
في السياق ذاته، يرى أستاذ علم الاجتماع الدكتور سعيد صادق، أن الواقعة كشفت عن وجود «جيوب اجتماعية» داخل المجتمع المصري ما زالت تعيش بمنطق الخرافة، وتمارس عادات وتقاليد لا تنتمي إلى الدولة الحديثة، ويُرجع ذلك إلى التفاوت الكبير في المستويات الاجتماعية والثقافية، ووجود بيئات معزولة لا تزال تحكمها منظومات فكرية تقليدية.
وأكد صادق، أن التعليم القائم على التفكير النقدي يُعد العامل الأهم في مواجهة هذه الممارسات، موضحًا أن امتلاك شهادات جامعية لا يعني بالضرورة امتلاك وعي حقيقي، خاصة في ظل مناهج لا تشجع على السؤال والتحليل وإعمال العقل.
ووصف، «البِشْعَة» بأنها عادة متخلفة لا مكان لها في دولة حديثة، مشيرًا إلى أن استمرارها يعكس أزمة ثقة في منظومة العدالة وبطء إجراءات التقاضي، ما يدفع بعض الفئات إلى اللجوء للأحكام العرفية بوصفها بديلًا سريعًا، وإن كان خارج القانون.
كما يشير إلى أن غالبية ضحايا هذه الممارسة من النساء، وفق تقديرات اجتماعية، ما يكشف عن بُعد تمييزي واضح، ويطرح أسئلة أعمق حول موقع المرأة في منظومة العرف، وحدود الحماية التي يوفرها القانون في مواجهة ممارسات تُمارس باسم التقاليد.