عصام التيجي يكتب.. من جدة.. حيث يصبح الكتاب وطنًا آخر
لم تكن مشاركتي في معرض جدة الدولي للكتاب مجرد حضور مهني أو تغطية إعلامية عابرة ، بل جاءت بوصفها رحلة وعي ممتدة بين دفتي كتاب ، ونافذة مفتوحة على مشهد ثقافي عربي يتجدد بثقة وعمق.
جئت إلى جدة بدعوة كريمة من هيئة الأدب والنشر والترجمة بالمملكة العربية السعودية ، فوجدت نفسي في فضاء ثقافي رحب ، تتجاور فيه المعرفة مع الجمال ، ويصافح فيه الفكر ضفاف البحر .
منذ اللحظة الأولى تحت قبة «جدة سوبر دوم» ، هذا الصرح المعماري الفريد الذي يحتضن المعرض ، بدا المشهد مختلفًا ؛ هنا لا يُقدَّم الكتاب بوصفه سلعة ، بل باعتباره حياة كاملة ، وسيرة أمة ، وجسرًا بين الأجيال .
أجنحة دور النشر تمتد كخرائط ذهنية للعالم العربي والإنساني ، من كتب التراث والفكر ، إلى أحدث إصدارات الرواية ، وأدب الطفل ، والترجمة ، والعلوم الإنسانية .
وكان للحضور المصري مكانته اللافتة ؛ إذ جاءت المشاركة المصرية واحدة من أبرز المشاركات العربية ، محمّلة بتاريخ عريق في صناعة النشر ، وثقل ثقافي طالما شكّل وجدان القارئ العربي .
بدت أجنحة دور النشر المصرية كذاكرة مفتوحة ، تستعيد أسماء لا تغيب ، وعناوين لا تشيخ ؛ من مؤلفات طه حسين التي لا تزال تضيء العقل العربي ، إلى كتب عباس محمود العقاد بفكره الموسوعي ، وكتابات يوسف السباعي التي تمزج الرومانسية بالوجدان الوطني ، مرورًا بإبداعات نجيب محفوظ التي تحولت إلى مرآة للمجتمع والإنسان ، وأعمال إحسان عبد القدوس التي لامست التحولات الاجتماعية بجرأة وصدق .
وإلى جانب هذا الإرث ، حضرت الإصدارات المعاصرة لكتّاب مصريين يواصلون المشوار ، في تنوع لافت بين الرواية والفكر وأدب الطفل والترجمة ، بما يعكس حيوية المشهد الثقافي المصري وقدرته على التجدد ، مع الحفاظ على جذوره الراسخة .
وخلال أيام المعرض ، كان التفاعل الإنساني هو العنوان الأبرز ؛ حوارات ثرية مع كتّاب ومفكرين ، ولقاءات عابرة تتحول إلى نقاشات عميقة ، وابتسامات قرّاء يؤمنون بأن الكتاب ما زال قادرًا على إنقاذ الروح من ضجيج العالم .
كما لفت انتباهي الحضور القوي للمرأة السعودية ، مؤلفةً ومبدعةً ومحاورةً ، في تجسيد واضح لتحول ثقافي ناضج ، ورؤية واعية لدور المعرفة في صناعة المستقبل .
أما الحضور العربي والدولي ، فقد منح المعرض بعدًا كونيًا ، مؤكدًا أن جدة لم تعد مجرد مدينة تستضيف حدثًا ثقافيًا ، بل غدت منصة حقيقية لحوار الحضارات ، وملتقى لصناعة الوعي ، ومختبرًا حيًا لأفكار تتجاوز الجغرافيا .
وبوصفي إعلاميًا وصحفيًا ، كانت التجربة ثرية على المستويين المهني والإنساني ؛ رصدًا للمشهد ، وتوثيقًا للحظة ، ونقلًا للصورة بصدق ومسؤولية ، مع شعور عميق بأننا أمام نموذج ثقافي يُحتذى ، تتكامل فيه الرؤية المؤسسية مع الشغف المجتمعي ، فينتج حدثًا يليق بالكتاب ومكانته .
أغادر معرض جدة الدولي للكتاب ، وأنا أحمل معي أكثر من عناوين ولقاءات ؛ أحمل يقينًا متجددًا بأن الثقافة ما زالت قادرة على جمعنا ، وأن الكتاب مهما "تغيّرت الوسائط" سيظل بيتًا آمنًا للمعنى ، وسجلًا أبديًا للمعرفة .
الشكر موصول لهيئة الأدب والنشر والترجمة ، ولكل من صنع هذا المشهد الراقي ، ولجدة المدينة التي كتبت اسمها بحبر البحر الأزرق ، واهتدت بنور العلم والرؤية الواعية .