عصام التيجي يكتب: رحيل فيلسوف السينما المصرية.. حين يغيب السؤال ويبقى الأثر
السؤال الذي يطرحه كثيرون : من هو داود عبد السيد؟.. سؤالٌ يتوقف عنده البعض طويلًا ، في زمنٍ قلّ فيه من يبحث عن الفلسفة الوجودية داخل السينما المصرية ، زمنٍ غاب فيه المخرج المثقف الواعي ، القادر على الغوص في أعماق الإنسان البسيط ، لا بوصفه شخصية درامية فقط ، بل ككائن مُحمَّل بالأسئلة والقلق والمعنى .*
*لكن الإجابة عن هذا السؤال لا تُقال بعبارات مباشرة ، بل تُرى وتُشاهَد .*
*إنها كامنة في أفلامه ، في تفاصيل الصورة ، وفي صمت الشخصيات ، وفي النهايات المفتوحة التي لا تُريح المشاهد بقدر ما تستفزه للتفكير ؛ هناك ، فقط ، نفهم من هو داود عبد السيد : مخرج جعل من السينما وسيلة للتأمل ، ومن الحكاية مدخلًا إلى أسئلة الوجود ، فتميّزت أعماله بعمق فلسفي نادر ، وبقدرة استثنائية على تحويل البساطة الإنسانية إلى مادة للتفكير والدهشة .*
رحل بجسده ، لكن إبداعه الفني باقٍ ، حيّ لا يموت ؛ ورغم أنه قدّم على مدار مسيرته الممتدة لأربعة عقود تسعة أفلام روائية طويلة فقط ، مخرجًا لها ، ومؤلفًا لمعظمها ، فإن "داود عبد السيد" تربع على عرش السينما المصرية كـ"فيلسوف الصورة" ، مفضّلًا الجودة الفنية والتعبير عن سينما المؤلف على الغزارة الإنتاجية .
ينتمي "عبد السيد" إلى جيل الهزيمة ؛ فتخرّجه من المعهد العالي للسينما عام 1967 دفعه إلى التمرّد على السينما الرومانسية التقليدية ، والبحث عن لغة سينمائية تكشف شقوق المجتمع بعد النكسة ، لذلك صنّفه النقاد كأحد أعمدة السينما الواقعية الجديدة ، تلك التي تستخدم الواقع كمتاهة لطرح أسئلة وجودية وفلسفية ، في اختلاف واضح عن واقعية عاطف الطيب الصادمة والمباشرة .
كان داود عبد السيد واحدًا من القلائل الذين آمنوا بأن الصورة يمكن أن تكون فلسفة ، وبأن الحكاية ليست غاية في ذاتها ، بل طريقًا إلى المعنى , لم يكن ابن السوق ، بل ابن القلق الإنساني ؛ أفلامه لم تسعَ إلى رضا سريع ، بل راهنت دائمًا على وعي المشاهد ، وعلى قدرته على التأمّل .
*من "الكيت كات" إلى "أرض الخوف" ، ومن "البحث عن سيد مرزوق" إلى "رسائل البحر" ، ظلّ السؤال هو البطل الحقيقي :*
*من نحن ؟*
*وماذا نخشاه ؟*
*وأين نقف بين السلطة والحرية ، بين الخوف والرغبة ، بين الواقع والوهم ؟*
تميّزت سينماه ببطولة الإنسان العادي ، المهمَّش ، القَلِق ، الذي يسير في الحياة محاطًا بأسئلة أكبر من قدرته على الاحتمال لم يقدّم إجابات جاهزة ، ولم يُصدر أحكامًا أخلاقية ، بل ترك النهايات مفتوحة ، وكأنه يقول للمشاهد : دورك لم ينتهِ عند تترات الفيلم .
كان داود عبد السيد مخرجًا مثقفًا بالمعنى العميق للكلمة ؛ قارئًا للفلسفة ، منحازًا للعقل ، ومؤمنًا بأن السينما فنّ خطير حين تكون صادقة ، لذلك بدت أفلامه ، رغم قلتها ، أكثر حضورًا من عشرات الأعمال الصاخبة ، لم يكن غزير الإنتاج ، لكنه كان نادر البصمة ، وكل فيلم له كان مشروع تفكير مستقل .
وربما كانت المفارقة المؤلمة أن مخرجًا اشتغل طويلًا على فكرة الخوف ، رحل في زمن يفيض بالخوف ، لكنه ترك لنا شجاعة السؤال ، وترك لنا سينما لا تشيخ ، لأنها لم تُبنَ على الموضة ، بل على الإنسان .
*رحل داود عبد السيد جسدًا ، لكن أفلامه ستظل "أثرًا" تُعرض كلما احتجنا إلى مرآة صادقة ، وإلى فن لا يستخف بعقولنا .*
*سلامٌ على من جعل من السينما مساحة للتفكير ، ومن الحكاية بابًا للحقيقة .*