بلدنا اليوم
رئيس مجلس الادارة
د/إلهام صلاح
رئيس التحرير
وليد الغمرى

«عم حكيم».. خطّاط بدرجة عازف «بلا أنامل»

كتب : مروة الفخراني - محمود صلاح

فنان الإسكندرية: «أهلى جهزوا كفنى بعد ما التروماى داسنى.. والحادثة سبب ما وصلت له الآن»

طفل لا يتعدى عمره السابعة، مسجى على سرير فى أحد مشافى الإسكندرية، وبجانبه كفنه، حيث تقبع روحه بين الحياة والموت، ونظرات ذويه تترقب الجسد الضئيل بخوف، لا يملكون من الأمر شيئا غير أمنية وحيدة وأيادٍ مرفوعة بالدعاء.

 

مشهد محفور فى عقل "أحمد حكيم"، خطّاط الإسكندرية، يستعصى على النسيان، حيث الحدث المعجزة الذى حوّل حياته رأسا على عقب، "كنت طفلا شقيا جداً، وبدال مأرجع من المدرسة أذاكر دروسى، زي بقية زمايلى، كنت برمى الشنطة فى الشقة، وأجرى ألعب وأتشعبط بين عربيات "التروماى"، لدرجة أننا كنا بنتسابق كل يوم بعد المدرسة، فى تسلق التروماى، لحد ما جه اليوم إللى أبطل فيه شعبطة للأبد".

 

دقائق معدودة حُبست فيها أنفاس المارة وركاب "التروماى"، بعدما غزت بركة من الدماء الأرض، وبقايا أجزاء بشرية "كالعادة كنت بتنقل بين عربية للتانية فى التروماى، وفجأة لقيت نفسى نازل تحت عجلاته، ومحستش بحاجة غير أصوات صراخ وجملة "يارب ميكنش مات"، كما أوضح حكيم، لـ"بلدنا اليوم".

 

ومع غيابه عن الوعى بدأ القدر فى تسطير الحروف الأولى فى قصة "خطاط الإسكندرية"، الذى فقد ذراعية والجزء السفلى من رجله اليمنى، وهو يمارس شغفه الطفولى فى الشعبطة، "كان أهلى مجهزين كفنى، لأن مفيش حد كان متوقع أبقى كويس، ولكن بعد شهر ونص، قدرت أتماثل للشفاء، ووقتها الدكتور قال لوالدى "ابنك زى الحصان قوى".

 

لفت حكيم، إلى أنه تقبل حاله بصدر رحب، واستطاع تجاوز أزمته، خاصة حينما التحق بمدرسة تأهيل مهنى لذوى الاحتياجات الخاصة، رغم رفض إدارتها له لكونه عاجزا بلا أيدى، وبساق واحدة، وهو ما جعل الشك يدب فى نفسه، متسائلاً: "يا ترى هقدر أتعلم إيه فى المدرسة، وأنا مش عارف هنجح فى إيه".

 

 لم تستمر كثيراً حيرة "خطاط الإسكندرية"، فقد صادف أحد المدرسين، يشبهه فى الإعاقة، واستطاع التغلب عليها بالرسم، يقول حكيم: "عرفت ساعتها أنا عايز أبقى إيه، وبدأت أتعلم من الأستاذ إزاى أمسك الفرشة، مرة بفمى، ومرة بكتفى وخدى، وربنا نبهنى إنى أضيق الكم علشان أثبت الفرشة فى كتفى، وأتقنت الرسم والخطوط، لحد ما انتهى مشوارى فى المدرسة".

 

 لم يكن ابن الستة عشرة عاماً، شاباً عادياً، بل كان شغفه لإثبات ذاته وقدرته على كسب المال من عرق جبينه، شغله الشاغل، لذا بدأ فى اللجوء إلى الكثير من أرباب المهنة، ولكنهم رفضوه كونه فى اعتقادهم عاجزا عن العمل كخطاط، ولم يكن الرفض سوى حافز للبدء فى العمل لصالحه والعزف بشكل منفرد خارج السرب.

"مكنتش عاوز أبقى نكرة، وأثبت أن مصر صاحبة المعجزات، فبدأت ألف على البياعين فى السوق، وأصحاب المحلات، لعمل "يافطات"، وكنت بشغّل معايا ولد صغير يمسك لى جالون الألوان والسلم علشان أعرف أخط اليافطة كويس، وبدأت أتعلم وأحسن من نفسى فى معرفة أنواع الخطوط، خاصة بعد ما رفضتنى مدرسة تحسين الخطوط، علشان ظروفى".

 

4 سنوات من الإيمان والعمل الشاق، كانت كفيلة أن تصنع اسم "أحمد الحكيم" من ذهب، حتى قابل صدفة، استطاع من خلالها أن يرسم لذاته فى لوحة حياته طريقا يحده الأمل والنجاح.

 

"وأنا عندى عشرين سنة، وغرقان فى طلبات كتابة "اليافطات والبنرات"، صادفت إعلانا لشركة الإعلانات المصرية التابعة لجريدة الجمهورية، عايزة خطاط، وساعتها قولت لازم أروح أقدم".

 

وتذكر حكيم، كيف قابله الإدارى الذى يقبع فى فرع الشركة بالإسكندرية، ونظرات الدهشة التى تعلو وجهه، حينما قدم الخطاط أوراقه للالتحاق بالوظيفة، وكيف لم يهدأ له بال، حينما قال له الإدارى إنه سيرسل أوراقه للفرع الرئيسى بالقاهرة، وقرر السفر لتسليم أوراقه بنفسه.

 

وروى حكيم، اللحظات الأولى للقائه مع "خضر عبد السلام"، المدير حينها فى مقر جريدة الجمهورية بالقاهرة، "لما عرف أنى جاى أقدم لوظيفة خطاط، رمقنى بنظرة متفحصّة ودراعى المقطوعة، وقالى "إنت جاى تهزر"، لكن مع إصرارى ونبرة الحماسة فى صوتى، قرر أن مدير ورشة الخطاطين يختبرنى".

 

"إنت موهوب، وهخليك تحت التمرين فترة"، بصوت يعلوه الحنين، قالها "حكيم"، مستعيداً لحظات النشوة والفرح، التى عمّت أرجاء ورشة جريدة الجمهورية، حينما استطاع أن يبهر الجميع بخطه ونجاحه فى الامتحان، وموافقة "عبد السلام"، عليه ليظل تحت التمرين، وعقب مرور شهر استطاع بكفاءته أن يجبر المدير على تثبيته فى الشركة.

 

اليوم، يعيش "حكيم الخطاط"، متنقلاً بدراجته النارية، بين أصحاب المحال الذين ما زالوا يفضلون "الخط اليدوى": "أنا طلعت على المعاش، وعايش دلوقتى لمراتى وأولادى رباب وحكيم وهانم وخديجة، وعلى الشغف اللى جوايا وحب الرسم، ورغم إن المهنة دلوقتى اختلفت عن زمان، بسبب ظهور الطباعة، إلاّ أن فيه ناس لسة بتفضل الخط اليدوى".

 

واختتم حديثه: "سعيد بكفاحى، وإنى قدرت أعمل حاجة لبلدى، علشان كدة بقول لكل شاب اتحرك، متعتمدش على غيرك، ولا تخلى الظروف شماعة، عافر واسعى علشان تجيب لقمة عيش بالحلال، ونقدر نعمر مصر بالخير".

تم نسخ الرابط