مكامير الفحم.. العمل بـ«صناعة الموت» من أجل الحياة

الجمعة 24 اغسطس 2018 | 04:52 مساءً
كتب : سارة أبوشادي-تصوير-مختار محمود

دقت الساعة لتعلن إشارة عقاربها العاشرة صباحًا، الصمت يعم أرجاء المكان، عدا صوت السيارات المندفعة على الطريق، أراضٍ زراعية ومجرى مائى صغير، أكوام من الخشب هنا وهناك، البعض منها مشتعل والآخر ينتظر دوره ، دخان يتصاعد فى سماء تلك المنطقة، القادم من بعيد يعتقد أن هناك حريقا إما فى الخشب المتواجد أو بالأراضى الزراعية الملاصقة له، لا يدرى أن مهمة الخشب الرئيسية هنا هى الاشتعال.

 

فور اقترابك من هذا الخشب، ستخترق رائحة الدخان رئتيك، وكأن أحدهم أصابك برصاصة فى عنقك، لكن الغريب أن العشرات من الأشخاص يجلسون هناك وسط الدخان، يتجمعون حول الخشب المحترق هنا، بعضهم يحمله، وآخر يحاول إطفاء الدخان، وهناك طفل يسكب المياه وآخر يضع التراب، يفعلون هذا وهم يتسامرون وتعلو ملامحهم ابتسامة صغيرة، علها هى من تهون عليهم العمل هنا، نعم فهؤلاء عمال مكامير الفحم، وتحديدا القاطنون فى قرية الفقهاء التابعة لمركز سيدى سالم بكفر الشيخ.

 

لم تكن قرية الفقهاء فقط بكفر الشيخ هى الوحيدة التى تحتوى على ما تسمى بمكامير الفحم، أو كما يُقال عنها مكامير الموت، فهناك الكثير من المحافظات المصرية التى انتشر بها هذا الأمر، فمثلا هناك ما يقرب من 250 مكمورة فحم بكفر الشيخ، وما يقرب من 80 أخرى بدمياط، وهناك أكثر من 100 مكمورة فحم فى كل من محافظات الغربية والبحيرة والقليوبية.

 

وتعتبر الدولة أنّ تلك المكامير بمثابة السرطان الذى يسرى فى جسد المواطن، فهى تستقطب عمالة من الفئات المختلفة ما بين شباب وشيوخ وأطفال، حتى إنّ هناك عددا من النساء تعملن بها، من أجل الحصول على قوت يومهن، لكنها تمثل كابوسًا للدولة يهدد البيئة، يجعلها تسعى للتخلص منه بشكل سريع.

 

 

وتمثل مكامير الفحم - بحسب آخر بيان للجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء - ومعها المنتجات النفطية، أهم الأنشطة الاقتصادية للإنتاج الصناعى لمنشآت القطاعين العام والخاص، بنسبة وصلت إلى ١٦٪، ومن بعدها المنتجات الغذائية.

 

وتقدر حجم تجارة الفحم فى مصر - بحسب آخر تقدير للجهاز المركزى للمحاسبات- حوالى ١١ مليون دولار، قبل العمل بالخطة الجديدة التى حددتها وزارة البيئة بتطوير المكامير لتصبح صديقة للبيئة، وفرض غرامات شديدة على أصحاب المكامير التى تعمل بالنظام القديم المضر بالبيئة، ووصلت فى بعض الأحيان إلى ١٠ أضعاف الغرامة القديمة التى كانت تقدر بـ٥ آلاف جنيه.

 

مواجهة الدولة للعاملين بالمكامير ليست فقط لأجل عملهم بشكل غير قانونى، لكن بسبب ما تسببه تلك المكامير من أمراض صدر مزمنة للعاملين بها، وكذلك القاطنين بالقرب منها، فمن الممكن مع استمرار استنشاق الهواء الملوث المنبثق عن حرق الأخشاب والذى يؤدى بدوره إلى خروج غاز يعد من أكاسيد الكبريت، التى من بين نتائجها الإصابة بـ"التهابات فى القصبة الهوائية، يتبعه الإصابة بسرطان الرئة"- وفقا لتقرير لمنظمة الصحة العالمية، كما يشير الكثيرون من أطباء الصدر إلى خطورة هذا الغاز والتى تصل فى بعض الأحيان إلى تليف القصبة الهوائية، ومن ثم فشل التنفس يتبعه الوفاة.

 

عاملون: قرية الفقهاء لا تعرف مهنة غيرها.. والموت جوعا مصيرنا إذا أُزيلت

وقف بوجه بشوش مبتسم تحت أشعة شمس حارقة، لم يعترض كالكثيرين من رفقائه على الحديث معنا لكنّه أيضًا بدا على وجهه التخوف بعض الشىء، ملامح وجهه تحكى الكثير والكثير، عيناه تنذران بامتلاك هذا الشاب ثقافة واسعة، من يجلس بالقرب منه يعتقد أنّه ليس عاملًا هنا بالمكامير، لكنّه جاء لزيارتهم فقط، ثلاثينى العمر أربعينى الهيئة، وكأنّ العمل بهذه المكامير يجعل من الشاب عجوزًا.

 

فى البداية رفض الشاب الثلاثينى الحديث معنا، خوفًا، خاصة بعد حدوث مشكلة كبيرة لهم بسبب أحد الغرباء الذين قدموا إليهم وأخبروهم أنّهم جاؤوا لمساعدتهم والوقوف معهم حتى يحصلوا على حقوقهم والدولة تعاملهم بطريقة آدمية، لكنّهم اكتشفوا خداع هؤلاء الغرباء، وتم توريطهم فى أمور لا علاقة لهم بها، مما جعل المحافظة وعددا من المسؤولين بها يعاقبونهم، وخرجت حملة موسعة وتمت إزالة المكامير المتواجدة حينها، وخسر الشاب ورفقاؤه آلاف الجنيهات، مما جعلهم حريصين على التعامل مع أى غريب يأتى إليهم.

 

وبعد دقائق من محاولة إقناعهم بالحديث، قررّ الشاب البوح بما يجول بخاطره وترك الخوف جانبّا، بعدما لمس الصدق فى حديثنا معه، وبدأ يقص رحلة الحياة التى يعيشون بها.

 

«أنا اسمى أحمد، خريج كلية الشريعة والقانون، مليش رزق غير هنا فى المكامير»، فى العقد الثالث من عمره، جسد نحيل أياد تمتلئ بالسواد، وجهه علاه آثار الدخان، صوت يتحدّث وكأنّه ملىء بالمعاناة، فقد تخرّج فى كلية الشريعة والقانون، وكان يعمل فى إحدى الفنادق السياحية بشرم الشيخ، لكن الحياة كانت قاسية، فبالرغم من ثقافته وعلمه؛ إلّا أنّها لم تسانده ولم تيسر أمامه طرق السعى، فخرج خالى الوفاض من مهنته بالسياحة بعد الأزمة التى ضربتها، ليعود أدراجه إلى قريته الصغيرة، ويبدأ من جديد رحلة البحث عن عمل آخر يكسب من خلاله قوت يومه، فلم يجد أمامه -مثله مثل الكثيرين من أبناء القرية- سوى العمل فى مكامير الفحم.

 

تحدّث «أحمد» عن المعاناة التى يتعرضون لها يوميّا بدعوى عملهم بشكل غير قانونى، فذكر أنّ هناك حوالى 400 عامل فى تلك المكامير بهذه القرية فقط وعدد من القرى المجاورة، فقريتهم التى تقع بنطاق مركز سيدى سالم، التى تسمى بقرية الفقهاء، جميع من بها يعملون فى هذه المهنة، إلّا من رحم ربى.

 

وتابع الشاب الثلاثينى، أنّ جميع شباب البلدة كانوا منقسمين فما بين المهاجر إلى ليبيا، أو العامل بالسياحة، فتلك المكمورة المتواجدة حولنا تحتوى على العشرات من العاملين بالسياحة، ولكن وبعد ثورة الخامس والعشرين من يناير والانهيار الذى لحق بهذا القطاع؛ تشرد الآلاف مما دفعهم للعودة إلى قريتهم والبحث عن مهنة أخرى يستطيعون من خلالها الحصول على قوت يومهم، فلم يجدوا أمامهم سوى العمل بداخل مكامير الفحم، لذا تعد تلك المهنة بمثابة الملاذ الآمن للفارين من المهن الأخرى والقادمين من غدر الهجرة.

 

وقال إن الدولة تعتقد أنهم يلوثون البيئة، لكن على العكس تمامًا ففى اعتقادهم أنّهم يحافظون عليها، خاصة أنّ الفحم تتم صناعته من المخلفات الزراعية التى لو تُركت ستؤثر هى الأخرى على البيئة.

 

وذكر أنّهم بالرغم من العمل الشاق الذى يقومون به، إلّا أنّ هناك البعض من المارين أو من ساكنى القرى المجاورة، يتقدمون بشكاوى بدعوى أنّ تلك المكامير تضر البيئة بشكل كبير وهم متأزمون منها، حتى ولو لم تحدد تلك الشكوى منطقة بعينها، فمن الممكن أن تكون مقدمة لمكمورة غير التابعة لهم، مما يجعل المحافظة تقوم بعمل إزالات لتلك المكامير بأكملها، بالإضافة إلى تغريمهم أكثر من 100 ألف جنيه.

 

وتطرّق الشاب إلى الحل الذى وضعته الحكومة للحفاظ على البيئة وتقنين وضع هؤلاء العاملين والعمل بطريقة قانونية، إلى أنّ تكلفة هذا الفرن حوالى 200 ألف جنيه فقط، لكن الدولة قررت بيعه لهم بأكثر من مليون جنيه، فلو تم تصنيعه يدويّا على يديهم -وهم على استعداد لفعل هذا الأمر- فلن يكلفهم شيئّا، لكن هذا الأمر رفضته الحكومة أيضًا، لأنّها تكسب الكثير من وراء هذا المشروع، لذا ستتكبد خسارة فادحة لو صنعه العاملون بأنفسهم.

 

شاب آخر، جاء مسرعًا من بعيد، يربط رأسه بقطعة قماش، عسى أن تقيه من حرارة الجو المرتفعة، وجهه يمتلئ بغبار دخان الفحم المحروق، ويداه لا تكاد تظهر من كثرة التشققات، قطع الحديث الدائر بيننا وبين أحد رفقائه ليقرر هو الخروج عن صمته: «أنا بقالى 17 سنة شغال الشغلانه دى مليش أكل عيش غيرها».

 

وقال عمر -الذى لم يتجاوز السابعة والعشرين من عمره- إنه يعمل بتلك المهنة منذ سن العاشرة، حصل على الدبلوم، وبنى نفسه وبيته من تلك المهنة الشاقة، حتى اضطرته الظروف للتفكير فى التفكير بأن يجعل زوجته المستقبلية تعمل معه، حيث تتبقى 10 أيام على موعد زفافه، لكنّه يعمل بكل جهد حتى يستطيع توفير مستلزمات فرحه، فهو يفكر كثيرًا فى الأيام الصعبة القادمة، فلقد تحمل نفقاته وحيدًا ببالغ الصعوبة، كيف سيتحمل نفقات أسرة بالكامل معه.

 

وأوضح أن «100» جنيه هى اليومية التى يحصل عليها خلال عمله فى المكمورة، حيث إن مهمته الأساسية حمل الخشب ووضعه فى شكل مثلث وتغطيته بالتراب، ولقوة جسده، يساهم فى تحميل الفحم على السيارات التى توزعه للفنادق.

 

واستنكر الشاب حديث بعض المسؤولين بأنّ أهالى قريته قدموا شكاوى بسبب تلك المكامير، موضحًا أنّ أهالى القرية بالكامل يعملون فيها؛ فكيف إذّا سيتقدمون بشكاوى ضدهم، وعلى حد قولهم، أنّهم لا يشعلون الدخان يوميّا، لكن يتم إشعاله لأيام وويتوقفون أيامّا كثيرة، فهؤلاء يعملون فى مكامير بسيطة وصغيرة، يعمل بكل واحدة منها حوالى 25 فردًا فقط، وهناك أماكن أخرى كبيرة وموسعة، لماذا إذّا لا تأبه لها الدولة، وتنظر فقط للبسطاء من هذا الشعب؟

ووقف عامل ثالث، عجوز، يربط ذراعه بقطعة قماش، يبدو أنّها مصابة من العمل، شعره أبيض ولحيته خفيفة، عيناه بها العديد من القصص والحكايات، هو الآخر يخشى من قدوم الغرباء، رفض الحديث فى البداية، لكن مرارة ما يعيشون به؛ دفعته للاندفاع والبوح بكل ما يجول بخاطره: «هو إحنا عايزين الشقى؟ بس ماعندناش غيره، هنعمل إيه؟».

 

كادت الدموع أن تنزل من عينى العجوز الخمسينى، والذى بدأ حديثه بالشكوى، فعلى حد قوله: "لو وجد مهنة أخرى يستطيع كسب قوت يومه منها، فلن يلجأ لتلك المعاناة بالطبع".

 

وتابع العجوز أنّه معرض يوميّا للإصابة بأمراض مختلفة، وفى حال إصابته سيجلس فى منزله ولن يجد من يطعمه هو وصغاره، فدخله الثابت شهريّا من مكامير الفحم حوالى 3 آلاف جنيه، لكن لو عرض عليه عمل أكثر أمانّا حتى ولو عائده أقل بقليل لكنّه حينها سيضمن فى حال مرضه أو إصابته أن يجد عائدّا، لذهب إليه.

 

وقال إن هناك الكثير من العاملين فى تلك المكامير والذين تلحق بهم الإصابة أثناء عملهم، لا يملكون سوى الخروج والبحث عن صاحب عمل يستدينون منه حتى يعودوا مرة ثانية، أمّا مرضى الرئة والقلب والممنوعين من الاقتراب من تلك المكامير أو العمل بها، فلا دخل لهم سوى من المساعدات التى يقدمها أهل القرية، ولو توقفت؛ سيموتون جوعًا.

 

وأضاف أنه بالرغم من كل ذلك، إلّا أنّ الحكومة قد أعطتهم مهلة حتى شهر نوفمبر القادم لإخلاء تلك المكامير والبحث عن مهنة أخرى، أو الرضوخ للحلول التى وضعتها هى، وإلّا ستقوم بإزالتها، بل ومحاسبة العاملين بها.

 

وأنهى العجوز حديثه: «إحنا عايزين نصرخ والله.. محدش سايبنا فى حالنا».

 

صاحب مكمورة: «الحل عند الحكومة بملايين.. وإحنا غلابة هنجيب منين»

وقف من بعيد يوجه العمال، امتلأ وجهه بالعرق نظرًا للحرارة المرتفعة، ملابسه لا تشبه كثيرًا ملابس المتواجدين بالرغم من وجود آثار للدخان الأسود المتواجد حوله، يبدو عليه من بعيد أنّه رئيسهم فى العمل، خمسينى العمر بدا عليه الإرهاق الشديد نظرًا للعمل فى هذه الأجواء، لكن أيضًا فور الاقتراب وبداية الحديث معه، ستجده ذا ثقافة عالية.

 

«عبد الحى» رجل فى الخمسين من عمره كان يعمل فى مجال السياحة، حتى أصيب بخسائر فادحة، لم يجد أمامه حلًا آخر سوى البحث عن مصدر رزق آخر، ولأنّ الحياة كانت متعثرة فى الكثير من الأحيان، فكّر فى طريق مختلف لكسب قوت يومه، فجمع ما تبقى معه من أموال وأقدم على شراء مكمورة فحم لتصبح هى بمثابة الدخل الوحيد الذى يعيش عليه هو وأسرته، وبالرغم من صعوبة تلك المهنة؛ إلّا أنّ عبد الحى ورفاقه لم يجدوا طريقًا آخر غير هذا.

 

بعد صعوبة بالغة وخوف وقلق من الحديث لغرباء، قررّ الخمسينى الحديث معنا عن رحلة صناعة الفحم، ومدى الشقاء والصعوبة التى يعيشها العاملون فى تلك المهنة، على الرغم من أنّها مصدر الرزق الوحيد لأهالى قرية الفقهاء.

 

بدأ عبد الحى حديثه بأنّ محطة صناعة الفحم فى البداية تأتى من شجر الموالح والكافور وغيرها، فبعد انتهاء موسم زراعة تلك المحاصيل، البعض يريدون تنظيف الأرض، مما يضطره لإزالة هذا الشجر، فهو الآن أصبح بمثابة مخلفات زراعية، تبدأ منها رحلة إنتاج الفحم.

 

وقال إن البعض يقومون بشراء هذا الخشب من الفلاح، وهناك عدد كبير من العمالة يجمعون الخشب ويقطعونه لعدة سنتيمترات، ثم بعد ذلك يتم نقله للمخازن، وبعد الانتهاء من نقله يترك حتى يجف تمامًا، لتبدأ رحلة جديدة وعمالة جديدة فى صناعة الفحم، فالعاملون فى نقل الخشب وتقطيعه وتجفيفه يبلغون قرابة 1.5 مليون شخص، أى أن هذا الجزء فقط من مهنة صناعة الفحم، يفتح بيوت الملايين من البسطاء.

 

وأضاف أنه بعدما يجف الخشب تأتى المرحلة الأهم وهى نقله للمكامير، والتى يعمل بها أيضًا الآلاف ما بين سائقين وعمال رفع وتحميل، ويعد هذا الأمر جزءا أيضًا من منظومة العمالة التى توفرها صناعة الفحم، لتأتى بعد ذلك المرحلة الأشبه بالنهاية وهى وصول الخشب إلى المكمورة، والتى يعمل بالواحدة منها ما يقرب من 7 عمال، تعد هى مصدر رزقهم الوحيد، وصاحبة الدخل الأساسى لقرية بأكملها، ولو انتهت؛ ستنتهى معها حياة عشرات الأسر البسيطة.

 

«إحنا بنشتغل بشكل غير قانونى، لكن نفسنا الدولة تساعدنا وتوفر لنا إننا نشتغل قانونى».. لم يعترض عبد الحى عن كونه يعمل بطريقة غير قانونية كما صنفتهم الحكومة، لكنّهم فى نفس الوقت يبحثون عن طريق ويسعون للعمل بشكل قانونى، فعلى حد قوله أنّه يسارع يوميّا بالذهاب للمجلس المحلى، بالإضافة إلى اللقاءات التى يعقدها المحافظ معهم، كل ذلك فقط لأجل العمل بطريقة وشكل قانونى، لكن بلا فائدةـ فالحل الذى تضعه الحكومة أمام هؤلاء يعجزهم بشكل كبير، وهو شراء الـ"فرن" الخاص بحرق الفحم به، مشيرا إلى أن هذا الفرن سيتسبب فى تسريح الآلاف من العاملين بالفحم، بالإضافة إلى أنّ تكلفته باهظة الثمن لا يتحملها أحد، حيث إن الواحد قيمته حوالى مليون و200 ألف جنيه، فقط لأجل الحصول على ترخيص العمل بالفحم.

 

وتساءل، كيف لعامل بسيط أن يحصل على مليون و200 ألف جنيه للحصول على ترخيص، فهل من الطبيعى أنّه لو امتلكنا هذا المبلغ، سنعمل فى مثل تلك المهنة الشاقة؟ حتى ولو كانت تخرج لنا الكثير؟

 

لكن لا أحد يسمع أنين هؤلاء العمال، فعلى لسان أحد رؤساهم، قال "إنّ البيئة والمحافظ يخرجون للمناداة بحماية البيئة، يبحثون فقط عن البيئة، ولا يبالون بمصدر رزق المواطن البسيط".

 

وأشار إلى أنّ نموذج الفرن الذى يتحدث عليه المسؤولون لم يصلح فى بلدتنا، فهناك أحد أصحاب المكامير الذى قرر السعى وجمع الأموال من كل مكان حتى استطاع شراء الفرن والحصول على ترخيص العمل به، لكنّه لم يكن مطابقًا كما تحدّثوا عنه، فهو أيضًا يخرج دخانا، وتسبب فى كارثة تسريح عمالة، فهو لا يعمل به أكثر من عاملين اثنين فقط، كذلك فإنّه يستهلك حوالى 15 أنبوبة غاز فى الدورة الواحدة، ومع ارتفاع الأسعار؛ اضطر صاحبه لإيقافه حتى يستطيع تحمل تكلفته، والعمل تحت مظلة القانون، بالرغم من أنّه يعطى الكثير من المميزات فهذا الفرن تكون معه "رخصة تصديرية" تمنح من يتملكه أن يقوم بتصدير الفحم إلى الخارج، بدلًا من بيعه فى السوق المحلية.

 

وأوضح أنه كان من السهل علينا جميعًا توفير كل تلك العمالة المتواجدة فى المكامير، والسعى لشراء هذا الفرن، خاصة أنّ العائد الذى سيدخل من ورائه كبير جدا، لكن ضيق الحال والبحث فقط عن الحياة ولقمة العيش، لا يوفران لنا المبالغ الطائلة التى تضعها الحكومة والمسؤولون أمامنا، بدعوى العمل تحت مظلة القانون: «كل اللى قدامنا دول عمالة غلابة مديونين، هيجيبوا منين؟».

 

         

«على» و«محمود» طفلان بصفات الرجال تحملا مسؤولية أشقائهما الـ5 ووالدتهما المريضة

 

وجه برىء مكسو بالتراب الأسود، يدان بدا عليهما العجز من كثرة التشققات بهما، قدمان لا تكادان تظهران من السواد المتواجد عليهما، يسير مسرعا فى خطواته، حتى الملابس صبغت بذات اللون، الذى بات هو الأساس فى هذا المكان.

 

لم يتخط الـ15 سنة، يحمل الخشب من هنا ويضعه هناك، لكن الحقيقة والواقع من ملامحه أنه فى الثلاثين من عمره.

 

جلس وسط الدخان يحاول استخراج الكلمات يتلعثم بها، خائفا مما يدور حوله، العاملون بجواره أخبروه من قبل وحذروه من التعامل مع الغرباء؛ خوفا من أن يتسببوا فى قطع عيشه ومصدر رزقه الوحيد هنا فى كمارة الفحم.

 

"على" فتى فى الخامسة عشرة من عمره، انتهى للتو من دراسته بالمرحلة الإعدادية، ويحلم بأن تسعفه الظروف ويلحق بالثانوية وتحقيق حلم أسرته بأن يصبح ذا شأن فى المجتمع، نحيل جسده، والألم يعلو وجهه، من يجلس بجواره يتيقن أنه طفل يبلغ 8 سنوات، لكن البحث والسعى وراء لقمة العيش جعلا منه شابا فتيا، يرعى أشقاءه الخمسة وأمه المريضة بعد رحيل والده، بالرغم من كونه لم يكن الأخ الأكبر لهم، لكن الحياة لم تترك أمامه اختيارا آخر سوى جَلب قوت يومه من وراء تلك المهنة الصعبة.

 

"أنا باشتغل هنا فى الإجازة علشان أقدر أصرف على البيت".. قرر "على" بعد فترة من محاولة الحديث معه أن يخرج عن صمته عسى أن يجد لدينا حلًا لما يعيش فيه هو وأسرته، الفتى الصغير توفى والده منذ سنوات ليست بالبعيدة، شقيقه الأكبر طالب جامعى، اتجه للبحث عن حياة أفضل وعمل أيضا أفضل من التواجد بداخل مكمورة فحم مثل شقيقه الصغير، لم تجد الأسرة أموالا كى تعيش بها، لذا قرر "على" الخروج برفقة شقيقه الأصغر محمود ذات العشر سنوات واللجوء إلى أحد المكامير المتواجدة على أطراف قريتهم والعمل بها، كلا الطفلين يحصلان على يومية ما يقرب من 100 جنيه يعودان بها إلى المنزل كل يوم.

 

الـ100جنيه تعد بمثابة الحياة لأسرة تجاوز عدد أفرادها الـ5، بالإضافة لأم عاجزة، فالدواء والمأكل والملبس بالإضافة إلى اقتطاع بعض من الجنيهات ليستفيد بها حمد وأشقائه أيام الدراسة التى لا يعمل بها بالمكمورة.

 

الفتى الصغير يعلم جيدا الخطر الذى يعيش بينه، لكن الدولة ومسؤوليها لم توفر له حلا آخر، فهو وشقيقه ينتظران النيران حتى تخمد، وبالرغم من لهيبها إلا أنهما يسرعان لمساعدة باقى العمال فى تنقية الفحم وتعبئته بداخل أجولة مخصصة له، لنقله فيما بعد إلى أماكن استخدامه فى الفنادق والمطاعم والمحلات.

وقف محمود بجوار أخيه يسانده، حتى فى الحديث، فهو أصبح عونا وسندا له فى الحياة، فبعد رحيل والدهما، قررا النزول والعمل معا لتوفير حياة كريمة لأمهما المريضة ولأشقائهما، يتعرضان بشكل يومى للدخان والنيران، لكنهما وبالرغم من ذلك، يهابان ويرفضان تماما فكرة الذهاب بعيدا عن هذا المكان، فقد أصبحت حياتهما فيه، لم يكن سهلا عليهما التأقلم هنا بداخل كل تلك المخلفات التى غيرت رائحة الهواء الذى يستنشقانه، لكنهما أيضا باتا جزءا لا يتجزأ منه.

نماذج كثيرة مثل على وشقيقه محمود توجد فى كل مكمورة من مكامير الفحم على مستوى الجمهورية، العشرات بل الآلاف من الأطفال يسارعون للعمل بداخلها بالرغم من الخطورة التى يواجهونها يوميا والعمل الشاق الذى يقومون به، إلا أن ظروف الحياة دفعتهم للسعى للحصول على لقمة العيش بداخلها، فلو وجدوا الفرصة فى مكان آخر أكثر آدمية يجعلهم يهربون منها؛ لما ترددوا للحظة واحدة.

 

سكرتير عام محافظة كفر الشيخ: وفرنا حلولا مناسبة للعاملين لكنهم يريدون الطرق غير القانونية

 

تواصلنا مع أحد المسؤولين بداخل محافظة كفر الشيخ، والذى تقلّد منصب سابق كرئيس لمجلس مدينة سيدى سالم، وهو السكرتير العام محمد أبو غانم، والذى ذكر أنه جرى تخصيص نحو 5 فدادين لإنشاء مكامير فحم شمال المحافظة، ولكن العاملين من الأهالى هم من يرفضون الحل الذى وضعته الدولة لهم، لحمايتهم من الخطر المتواجد حولهم.

 

وتابع «أبو غانم» أنّ المسؤولين جميعا تمنوا لو تم نقل هؤلاء العمال إلى المكان الجديد الأكثر أمانا يعملون به وفقا لشروط، وحرية أيضا، لن يتم تقييدهم فيها بشىء، بل سيكون العمل به أقل خطرا من تواجدهم وسط الأهالى، مما يسبب أزمات كبيرة.

 

لا توجد سوى حوالى 20 مكمورة فقط فى سيدى سالم، تلك المكامير متواجدة فقط فى قرية الفقهاء، هذا المكان الذى تم إزالته أكثر من مرة، لكن المكامير أصبحت أمرا واقعا بالنسبة للجميع، لذا قررت الحكومة اختيار المكان الأنسب لتواجدهم، هذا المكان له ضوابط أهمها بعده الجغرافى عن المناطق السكنية حتى لا تحدث نفس المشاكل التى نعانى منها، خاصة أن هناك الكثير من الشكاوى التى تقدم للمحافظة من قبل القاطنين بالقرب منها، فالدخان يسبب لهم العديد من الأزمات، بحسب حديث سكرتير عام محافظة الشيخ.

 

وقال إن العاملين بهذه المهنة يملأ الطمع قلوبهم، فهم يجنون الكثير من الأموال فى حرق مكمورة واحدة لأيام، ولا يكتفون من الحصول على آلاف الجنيهات من تلك المكمورة، بل يتركونها مشتعلة طوال الشهر؛ للحصول على أموال أكثر وأكثر، وهذا الأمر يسبب الكثير من المشاكل للأهالى.

 

وبسؤال «أبو غانم» عن الدور الذى تقوم به المحافظة للمساهمة فى البحث عن حل لتلك المشاكل، تحدّث عن أنّ المحافظة تقوم بالدور المطالبة به، فهناك الكثير من حملات الإزالة التى تشنها، من خلال النزول إلى تلك الأماكن وإغراقها بالمياه، مكذبّا حديث الأهالى بأن حملات الإزالة التى تنزل للمكامير، تقوم بإشعال النيران فى الخشب المتواجد، الأمر الذى ذكره أبو غنيم بأنه لو تم بالفعل حرق الخشب؛ فكيف إذا سيستطيع إيقاف المكمورة، بل سيساعدهم فى الاستمرار، خاصة أن مشكلة هؤلاء فقط فى الدخان.

 

وتابع أنّه على العكس كنا نطالب العاملين بالمكمورة بجمع الخشب ونقله إلى مكان آخر، والمفترض على صاحب المكمورة عدم إعادته مرة ثانية والعمل بشكل قانونى، لكن هذا لا يحدث، وما زالوا مستمرين فى العمل بطريقة غير قانونية.

 

وبالنسبة للمكان الجديد الذى تم توفيره من قبل وزارة البيئة، فذكر محمد أبو غانم، سكرتير عام محافظة كفر الشيخ، أن العاملين بالمكامير معترضون عليه فقط لـ"بُعد المسافة بينه وبين منازلهم"، والمفترض أن هذا الأمر هو الأصح، لكن لا حياة لمن تنادى، فالأهم بالنسبة لهم الربح، دون النظر إلى المنفعة العامة.

 

وأشار إلى أن العاملين بالمكامير مجرد 7 أو 8 أسرة، أقاموا بالقرب من منازلهم عددا من المكامير لم يتجاوزوا العشرين مكمورة، وعملوا بداخلها، هؤلاء لا يشكلون أزمة كبيرة للمحافظة، لكن الأزمة الحقيقية كانت على البيئة وعلى السكان، لذا يجب إيقافهم عن ممارسة ما يقومون به.

 

عضو «اتحاد الصناعات»: إنتاجهم لم يعد يؤثر على الصناعة.. والدولة يجب أن تحسم التقنين

 

وفى هذا الشأن قال سيد البرهمتوشى، عضو اتحاد الصناعات، إنّ العاملين بطرق غير قانونية فى صناعة الفحم عبر ما تسمى بالمكامير، يجب أن يحاولوا الاستماع إلى الأمور القانونية التى تعرضها الدولة عليهم، حتى يتم الحفاظ على البيئة، ووقف انتشار الأمراض التى تؤثر على المواطنين.

 

وبصفته عضو اتحاد الصناعات، أوضح أنّ الفترة الأخيرة لم يعد الفحم مؤثرًا على الصناعة بشكل كبير، خاصة أنّ الماكينات التى باتت تستخدم فى الصناعة المصرية، أصبحت تستخدم وسائل غير الفحم، لذلك فإنّه فى حالة تعامل الدولة مع أصحاب المكامير سواء بطريقة قانونية، أو حتى أغلقتها، فإن الصناعة لن تتأثر بشىء.

 

وتابع أنّ الحكومة وفرّت ميكنة حديثة أو ما يطلق عليها الأفران، لصناعة الفحم، بدلّا من الطرق غير القانونية وغير الآدمية التى يعمل بها هؤلاء، حيث تحتوى تلك الأفران على فلاتر صديقة للبيئة تمنع الدخان من التصاعد للهواء والتسبب فى التلوث وانتشار الأمراض.

 

وأضاف: ولأنّ العاملين بتلك المكامير يعترضون على حلول الحكومة بدعوى أنّ التكلفة غالية، فهناك حل آخر ستساهم أيضًا الحكومة به بشكل كبير وهو إنشاء شركة مساهمة تضم جميع العاملين بالمكامير فى المحافظة، تقوم تلك الشركة بشراء الفرن حتى ولو كان هذا عن طريق التقسيط من الحكومة، أو حتى عن طريق قروض، لكنّه سيكون حلًا لكل المشاكل التى يتحدّثون عنها، سواء من جانب الدولة أو من جانب العمال.

 

وأشار إلى أن من يتحدّث عن أنّ الفحم -فى حال إيقاف العاملين به- سيؤثر على اقتصاد الدولة؛ فهو لا يفقه شيئا، فلم يعد هناك احتياج كبير لاستخدام الفحم فى الدولة، حتى إنّ بعض الفنادق التى تستخدمه للقيام بعملية الشواء، لا تستخدم كميات كبيرة منه، ومن الممكن أن تقوم الدولة باستيراد تلك الكميات من الخارج، بدلّا من صناعتها فى الداخل وتهدد البيئة فى المقابل وتؤثر على صحة المواطنين.

 

ولفت إلى أن الدولة من الممكن أن تعوض العاملين بالمكامير تعويضا بسيطا، لأن ما يحدث من وراء تلك الصناعة غير القانونية، هو أمر كارثى لم يعد يحتمل الصمت أكثر من ذلك.

 

وذكر سيد البرهمتوشى، أنّه كرجل صاحب مصنع، فرض عليه شراء غلايات صديقة للبيئة لا تعمل بالفحم، ولو قررت الحكومة أن تعمل تلك الغلايات بالفحم؛ لكانت تلك الصناعة ستروج مرة ثانية، ولكننا سنعود هنا لنقطة البداية، فالبيئة أصبحت فى خطر يهدد الجميع، لكن الحل متواجد على الدولة "المساهمة" حتى ولو كانت عن طريق القروض؛ للسماح لهؤلاء بشراء الأفران، ومنع الحجج التى يتفوهون بها، وفى حال المخالفة مرة ثانية واستمرار السير فى الطرق غير القانونية؛ فمن حق الحكومة هنا أن تضع عقوبة مشددة، حتى لو وصلت إلى الغرامة أو السجن، لأنّ حينها لن يكون أمام هؤلاء حجة أخرى للعمل بشكل غير قانونى.

 

منظمة الصحة العالمية: نوبة قلبية أو الوفاة المبكرة ضمن 6 مخاطر للتعرض لدخانها

 

أجرت منظمة الصحة العالمية، دراسات لبيان تأثير احتراق الفحم على الصحة، وتحديدًا على صحة الإنسان وخاصة القلب، حيث أشارت، خلال مؤتمر الأمم المتحدة بشأن تغير المناخ الذى عقد بباريس، إلى أن هناك الكثير من الآثار السلبية للتلوث الناتج عن هذا الاحتراق على صحة القلب.

 

وأوضحت أن الدراسات والأبحاث العلمية السابقة ذكرت أن الجزيئات الصغيرة الناتجة عن احتراق الفحم، سامة، بغض النظر عن مصدرها، ووفقا لإحصائيات المنظمة العالمية، توفى 3.7 مليون شخص بسبب هذا التلوث.

 

وأضافت أن الخطر يكمن عند احتواء هذه الجزيئات على مواد، مثل "الزرنيخ أو الزئبق أو السلينيوم"، ففى حال دخولها إلى الجسم، تنطلق بشكل حر، وتحدث أضرارا، تتمثل فى "الوفاة المبكرة لمرضى الرئة والقلب، نوبة قلبية غير مميتة، تفاقم الإصابة بمرض الربو، عدم انتظام دقات القلب، انخفاض فى وظائف وكفاءة الرئتين، مشاكل عامة فى الجهاز التنفسى".

 

وأكد الباحثون أن تنفس التلوث الناتج عن احتراق أى شىء، مضر بالصحة، إلا أن الأمر المفاجئ كان بأن تنفس الناتج عن احتراق الفحم، ضرره أكثر بـ5 مرات من الجزيئات الأخرى، كما كان مرتبطا بارتفاع خطر الوفاة بسبب أمراض القلب.

 

وبهذا الصدد، أشار الباحثون إلى ضرورة تركيز طرق التوعية بشأن التلوث الناتج عن احتراق الفحم، لما له من ضرر كبير على صحة الفرد، لذا حذرت منظمة الصحة العالمية من خطر التعرض بشكل مباشر لهذا الدخان وتنفسه لفترات طويلة؛ لأنّ نهاية هذا الطريق هو الموت ولا غيره.

 

 

 

 

 

 

اقرأ أيضا