صالح المسعودى يكتب: الوطنية الحائرة بين “المنح والمنع”

كما هي عادة شعوبنا ( يقيمون الدنيا ولا يقعدونها ) لمجرد الاختلاف في وجهات النظر ، فلم نتعود على ثقافة الاختلاف في الآراء واحترام وجهات نظر الغير ، وكأن احترامنا ينقص من سطوتنا وهيبتنا ، ناهيك عن ارتفاع الاصوات الذي يجلب عليك حتى المارين بالطريق ولما لا ؟ فنحن أصبحنا ننافس العالم في العند ، والعند المضاد ، ونمتلك من الحجج والبراهين ما يجعلنا ندافع عن وجهة نظرنا حتى لو كنا على باطل ، فمبدأ ( الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية ) لا نعترف به إلا في حالة الضربة القاضية أو في حالة الهزيمة فقط
كان نقاش أصدقائي يدور حول الوطنية ومَن تنطبق عليه صفة الوطني ، وبما أننا ابتلينا بملاك الوطنية بعدما شُفينا من ملاك الدين فقد تعالت الأصوات بين مهاجم ومدافع ، فالوطنية عند البعض هي حب هذا الوطن ، والوطنية عند البعض مرتبطة بالأغاني الوطنية الحماسية فهي التي تشعره بحب الوطن ، والوطنية عند البعض تظهر لدى الفرد عندما يعمل في جهة معينة أو ينتمي لمؤسسة بعينها ، والوطنية عند البعض ماتت منذ زمن لأنه وعلى حد وصفه ( ماذا أخذنا من البلد ) بمفهومه ( يحبها ويخاف عليها اللي استفاد منها ) ، والوطنية عند البعض من النوع البغيض الذي يمنح نفسه لقب وطني في الوقت الذي يسلبه من الجميع وهذا نوع من التطرف الفكري بل قد يتطور للإرهاب الفكري وهذا محور حديثنا اليوم
أسكتت أصدقائي بأسلوبي الخاص قلت لهم ( الوطنية يا سادة تولد مع الشخص وتسري في دمه وهو من عليه تنميتها أو قتلها ، والوطنية يا سادة تنمو مع العدالة الاجتماعية التي تعطي الشعور بأنك شريك في ملكية هذا الوطن فينمي فيك حبه وخوفك عليه ؛ والوطنية يا سادة تبدأ من الأسرة فإن كنت منتمي لأسرتك سَهُل عليك أن تنتمي لبلدتك ومن ثم لوطنك الكبير، ( فكل ديرة عند أهلها شام ) ومعناها لمن لم يلفت انتباهه المثل ( أن كل شخص من حبه لديرته ومرباه أو قريته ومدينته يرى ديرته ( شام ) والشام كما نعلم كان يضرب بها المثل في الجمال ) قبل أن يتحول للشام الجريح الذي يتكالب عليه الكلاب
الوطنية يا سادة إحساس لا يوصف ، ولكن لابد أن يظهر في تصرفاتك فالوطنية الشفهية لا قيمة لها فإن قلت لي أنا وطني سأقول لك هاتَ ما عندك ودلل على تلك الصفة ، فالوطنية أفعال وليست أقوال وإلا كان من تشاهدونهم من ( الطبالين ) من أهل الاعلام المزيف الأكثر وطنية فهم أصحاب أصوات عالية ، ( والأصوات العالية لا تصدر إلا من الأواني الفارغة )
الوطنية يا سادة موروث نفسي وقيمي وإنساني ، فها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عندما خرج من مكة موطنه الذي عاش وتربى فيه ( والله انك لاحب ارض الله إليَ ولولا اهلك أخرجوني منك ما خرجت ) أو كما قال ( صلى ) فهذا دليل من سنة رسول الله يبرهن على الانتماء للموطن وحبه ، فالوطنية ليست الطنطنة بالكلام المعسول ، بل هي أفعال بكل المقاييس ، فإن فعلت ما عليك لترتقي بوطنك فأنت وطني ، وإن دافعت عن ترابه حتى لو ضحيت بنفسك من أجله فأنت وطني ، وإن قدمت مصلحة وطنك على مصلحتك فأنت وطني ، وإن تصرفت أمام الغير بشكل يحسن من صورة وطنك فأنت وطني ، وإن نميت حب الوطن في أطفالك فأنت وطني وقس على ذلك الكثير والكثير من التصرفات المحببة
الوطنية يا سادة لا تُباع ولا تُشترى ، ولا تُمنح ولا تُمنع ، فليس من حق أحد كائناً من كان أن يملك صكوك الوطنية يمنحها من يشاء أو يمنعها عمن يريد ، فكل شخص له مفهومه في الوطنية وكل ما علينا فعله هو أن ننمي في نفوس الغير حب الوطن وتعريفه الصحيح ، فتذكروا معي كيف أن اللصوص توقفوا عن السرقة يوم السادس من اكتوبر 1973 لإحساسهم بأن الوطن في حالة حرب ( وهذا أيضاً نوع من الوطنية حتى لو صدر من لص ) فلا تصادروا على الغير إحساسهم بوطنيتهم وارتباطهم بأرضهم فلستم أكثر وطنية من غيركم فهذا الأمر يثير الفتن ويُميت الوطنية عند البعض بتصرفات هوجاء من أناس لا يقدرون معنى الوطنية
استقيموا يرحمكم الله