بلدنا اليوم
رئيس مجلس الادارة
د/إلهام صلاح
رئيس التحرير
وليد الغمرى

أرباح اليوتيوبرالباب الخلفي لغسيل الأموال وتجارة الأعضاء

مؤثرون بملايين.. صناعة جديدة تغيّر شكل الاقتصاد

منصات السوشيال
منصات السوشيال

من مقطع قصير على "تيك توك" إلى ملايين الدولارات.. رحلة تبدو خيالية لكنها باتت واقعًا جديدًا يعيد تشكيل الاقتصاد في مصر والعالم.. 

ومع تزايد منصات التواصل الاجتماعي، تدفقت أموال طائلة من وراء الشاشات الصغيرة، يصنعها شباب وفتيات في العشرينات من أعمارهم، تحولوا في فترة قصيرة إلى نجوم على "يوتيوب، فيسبوك، وتيك توك"، بأرباح قد تعادل رواتب كبار الموظفين لسنوات، هذه الظاهرة، التي باتت تُعرف بـ"فلوس السوشيال ميديا"، تحولت من حلم إلى صناعة ضخمة تثير الجدل الاقتصادي والاجتماعي والقانوني.

منصة للربح أم ستار لغسيل الأموال؟

في إحدى القضايا التي شغلت الرأي العام مؤخرًا، فوجئ متابعو شاب مشهور على "تيك توك" و"لايفات إنستغرام" ما يُعرف باسم "شاكر محظور" وغيرهم من صناع المحتوى بخبر القبض عليهم بتهمة غسيل أموال، لكن ما لفت الإنتباه هو أن الشاب الذي اعتاد الظهور يوميًا في بث مباشر، يجذب آلاف المتابعين ويستقبل هدايا افتراضية تتحول إلى مبالغ مالية ضخمة، وجد نفسه فجأة متورطًا في تحقيقات أمنية.

التحريات كشفت أن تلك التحويلات لم تكن كلها "نزيهة"، بل استُخدمت المنصات كواجهة لتحويل أموال مشبوهة بين أطراف مختلفة.. القصة لم تتوقف عند شاكر وحده، فقد ظهرت أسماء أخرى في قضايا مشابهة، لتطرح تساؤلًا خطيرًا: هل تحولت منصات التواصل الاجتماعي في مصر إلى بوابة سهلة لغسيل الأموال تحت ستار "الفلوس الرقمية" والهدايا الافتراضية؟

منصات السوشيال
منصات السوشيال

بين العالمية والمحلية

على الصعيد العالمي، يظل "جيمي دونالدسون" المعروف بـ MrBeast أبرز نموذج لرواد السوشيال، إذ حقق 54 مليون دولار في عام واحد (2022) من "يوتيوب"، بجانب إطلاقه سلسلة مطاعم خاصة به.

أما على المستوى العربي، فقد برز أحمد أبو زيد، مؤسس قناة "دروس أونلاين"، الذي بدأ بإمكانيات بسيطة وحقق أرباحًا بالملايين عبر المحتوى التعليمي، ليصبح نموذجًا مختلفًا عن صناع الترفيه.

وفي الخليج، لمع اسم السعودي عبد العزيز ربيع، الذي جذب ملايين المتابعين عبر "سناب شات" و"تيك توك"، محققًا أرباحًا ضخمة جعلته ضمن أبرز المؤثرين الشباب في المنطقة.

صناع المحتوى
صناع المحتوى

بين التعليم والترفيه والجدل

ورغم وجود نماذج تعليمية وثقافية ملهمة، يبرز في المقابل محتوى مثير للجدل يحقق أرباحًا كبيرة لكنه يواجه رقابة حكومية، فرضت بعض الدول عقوبات تصل للحبس والغرامة على من ينشر فيديوهات خادشة للحياء أو مضللة.

وفي مصر، ظهر جانب آخر من المشهد مع بعض المؤثرين، الذين حققوا انتشارًا واسعًا وأرباحًا هائلة، لكنهّن واجهن قضايا أمام المحاكم وحظرًا على حساباتهن.

صوت من الداخل

يقول أحد صناع المحتوى في مصر: "بدأت أربح بالدولار من إعلانات يوتيوب، لكن في 2021 وصلني خطاب من الضرائب بضرورة فتح ملف ضريبي، ودفعت 35 ألف جنيه في أول عام، الأمر لم يكن سهلاً، لكنني أعتبره خطوة طبيعية، بشرط أن تراعي الدولة تسهيلات للشباب".

وتقول سارة، صانعة محتوى تجميلي: "لم أكن أتخيل أن فيديوهات بسيطة من غرفتي ستغيّر حياتي، لكنني الآن أعتمد على دخلي من إنستغرام وتيك توك، ورغم ذلك ما زلت خائفة من عدم وضوح القوانين الضريبية، وأخشى أن تتحول الأرباح إلى عبء بدل أن تكون فرصة".

جماهير السوشيال
جماهير السوشيال

من اقتصاد غير رسمي إلى ملف وطني

ظلت أرباح السوشيال ميديا تُصنّف ضمن الاقتصاد غير الرسمي لسنوات، لكن مصلحة الضرائب المصرية بدأت مؤخرًا في دمجها بالاقتصاد الرسمي، ما قد يضيف مئات الملايين من الجنيهات إلى خزينة الدولة، وذلك مع زيادة أعداد صناع المحتوى بمختلف ما يقدمونه من محتوى على منصات التواصل الاجتماعي.

الهدايا الافتراضية.. بوابة غسيل الأموال

بحسب خبراء الاقتصاد، فإن منصات التواصل الاجتماعي يمكن أن تتحول بالفعل إلى بيئة ملائمة لعمليات غسيل الأموال، خاصة مع انتشار ما يُعرف بـ"الهدايا الافتراضية" و"التحويلات الرقمية" التي يصعب تتبعها بدقة.

ويقول الخبير الاقتصادي أشرف غراب: "الهدايا الافتراضية التي تُرسل عبر تيك توك أو يوتيوب قد تكون في بعض الحالات غطاءً لتحويل أموال مجهولة المصدر، خصوصًا إذا لم تكن هناك رقابة صارمة أو آليات تحقق من هوية المرسِل والمستقبِل".

وأوضح غراب أن أرباح "يوتيوب" تتراوح بين 2 و18 دولارًا لكل ألف مشاهدة، بحسب المجال ونسبة التفاعل، بينما قدّر حجم الإنفاق الإعلاني الرقمي في مصر بـ1.79 مليار دولار مع نهاية 2025.

أشرف غراب خبير اقتصادي
أشرف غراب خبير اقتصادي

رقابة صارمة أم دمج اقتصادي؟

في مصر، أكدت الأجهزة الرقابية أن بعض القضايا التي طالت مؤثرين مؤخرًا أثبتت استخدام المنصات في تمرير أموال مشبوهة، ما دفع الدولة لتشديد الرقابة والتنسيق مع شركات التكنولوجيا العالمية لرصد أي معاملات غير طبيعية.

لكن في المقابل، ويرى الخبراء أن إدماج هذه الأرباح في الاقتصاد الرسمي، وإخضاعها للضرائب، هو الخطوة الأهم لتقليل مخاطر استغلالها في جرائم مالية، وتحويلها إلى مصدر دخل مشروع يضيف للاقتصاد.

مليونيرات السوشيال ميديا

تقول الدكتورة حنان رمسيس، خبيرة أسواق المال، إن تطبيقات مثل "يوتيوب" و"تيك توك" أفرزت ما يعرف بـ"مليونيرات السوشيال ميديا"، خاصة مع انتشار الهدايا الافتراضية التي أصبحت مصدر دخل رئيسي للشباب.

حنان رمسيس
حنان رمسيس

وفي سياق متصل، يوضح الخبير الاقتصادي تامر عرابي أن أبرز مصادر الدخل التي يعتمد عليها صناع المحتوى عبر منصات التواصل الاجتماعي تتمثل في الإعلانات المدفوعة، والتسويق بالعمولة، والاشتراكات الشهرية، إلى جانب بيع المنتجات والخدمات، وحتى البودكاست الذي بات أداة جديدة للكسب.

ويضيف: "هذه الصناعة لها تأثير مباشر على الاقتصاد التقليدي، فهي من ناحية تغيّر سلوك المستهلكين وتُسهم أحيانًا في خفض تكاليف التسويق للشركات، لكنها من ناحية أخرى قد تُشكّل خطرًا إذا ظلت خارج مظلة الاقتصاد الرسمي، إذ تؤدي إلى إضعاف الاقتصاد التقليدي وحرمان الدولة من موارد مالية مهمة".

صناع المحتوى تحت مجهر الدولة

قانونيًا، ألزمت مصلحة الضرائب صناع المحتوى بفتح ملف ضريبي والتسجيل في ضريبة القيمة المضافة عند تجاوز 500 ألف جنيه سنويًا.

ويقول الدكتور عيسى الشريف، الأمين العام لاتحاد خبراء الضرائب: "القانون يحتاج إلى تبسيط الإجراءات، فالكثير من الشباب لا يملكون وعيًا كافيًا بالتزاماتهم، وهو ما يتطلب ورش تدريب وتواصل مباشر لتجنب التهرب غير المقصود".

كما حددت المصلحة ضوابط جديدة لصناع المحتوى، تُلزمهم بإثبات جميع التكاليف والمصروفات المرتبطة بنشاطهم، خاصة ما يتعلق بالأتعاب المهنية لمقدمي خدمات العمل الحر مثل تصميم الفيديوهات، المونتاج، كتابة المحتوى، والتسويق الرقمي.

أشرف عيسى
أشرف عيسى

حصيلة ضرائب السوشيال ميديا

وفي السياق ذاته، أعلنت رشا عبدالعال رئيس مصلحة الضرائب، في بيان لها مؤخرًا، أن حصيلة المصلحة بلغت 1.483 تريليون جنيه خلال الفترة من يوليو 2023 حتى يونيو 2024، وذلك في مقابل 1.139 تريليون جنيه عن الفترة المماثلة بمعدل نمو 30%، وبزيادة قدرها 343 مليار جنيه، بنسبة تنفيذ بلغت 106% من الربط المستهدف.

هذه الأرقام تكشف أن دمج اقتصاد السوشيال ميديا في المنظومة الضريبية يمكن أن يشكل رافدًا قويًا للخزانة العامة.

 رشا عبدالعال رئيس مصلحة الضرائب
 رشا عبدالعال رئيس مصلحة الضرائب

البعد الاجتماعي للسوشيال ميديا

من الناحية الاجتماعية، يرى الدكتور أحمد شوقي، أستاذ علم الاجتماع، أن هذه الصناعة خلقت "ثقافة الشهرة السريعة"، التي قد تدفع بعض المراهقين إلى تقديم محتوى صادم طمعًا في الأرباح، وهو ما يُهدد المنظومة القيمية للمجتمع.

ويضيف: "في المقابل، فتحت هذه الظاهرة وظائف جديدة مثل التسويق الرقمي والمونتاج، ما يخلق فرصًا للشباب بعيدًا عن الوظائف التقليدية".

وفي السياق ذاته، أوضحت غادة مظلوم، استشاري علاقات أسرية وخبير تربوي، أن منصات التواصل الاجتماعي أصبحت بيئة خصبة لتغذية "حلم الثراء السريع"، خاصة بين فئة المراهقين والشباب، حيث تُروَّج قصص نجاح لمؤثرين حققوا شهرة ودخلًا مرتفعًا في فترات قصيرة، وهذا الواقع خلق ضغطًا نفسيًا واجتماعيًا متزايدًا، مضيفة أنه انعكس في تزايد حالات ترك الدراسة أو الوظائف التقليدية، والرهان الكامل على محتوى غير مضمون العوائد.

وأكدت أن الظاهرة لم تعد تقتصر على الجانب الاقتصادي فقط، بل تحولت إلى أزمة قيمية تهدد مفهوم العمل الجاد والمثابرة، فبينما يسعى البعض إلى تقليد النماذج الناجحة، يغفل كثيرون عن حجم المخاطر المرتبطة بهذا المسار، بدءًا من التحديات التقنية والإبداعية، وصولًا إلى الضغوط النفسية الناتجة عن المقارنة المستمرة مع الآخرين واستعراض الثروة عبر الفضاء الرقمي.

ورغم بريق الأرباح وسهولة الانتشار، تبقى صناعة "فلوس السوشيال ميديا" سيفًا ذا حدين، فهي تفتح للشباب أبواب رزق جديدة وتضيف للاقتصاد الرسمي موارد مهمة، لكنها في الوقت ذاته تثير تساؤلات حول القوانين، والثقافة، والمسؤولية الاجتماعية.

يبقى السؤال: هل ستنجح الحكومات في تحويل صناع المحتوى من "مستهدفين" إلى شركاء حقيقيين في بناء اقتصاد رقمي مستدام؟

تم نسخ الرابط