بلدنا اليوم
رئيس مجلس الادارة
د/إلهام صلاح
رئيس التحرير
وليد الغمرى

ناجي مطش يكتب: حكايات مهاجر

بلدنا اليوم
كتب : بلدنا اليوم

بقلم ناجي مطش

تتجدد الذكرى اليوم بحلول أربعة وثلاثون عاما على هجرتى للولايات المتحدة الأمريكية وبناءا على طلب العديد من الأصدقاء الأحباء قمت بتجميع الحلقات التى كنت بدأت أكتبها تحت عنوان حكاية مهاجر ولعلى أجد من التشجيع لأستكمالها ان شاء الله.

اليوم أتممت العام الرابع والثلاثون على هجرتى الى الولايات المتحدة الأمريكية ..فكيف تولدت فى نفسي فكرة الهجرة وأنا العاشق الولهان بحب كبير وعشق شديد لبلدى مصر ومدينتى الأسكندرية ولعائلتى وأصدقائى وجيرانى وشيخى ياسين رشدى الذى تعلمت منه صحيح دينى وأكبر معنى فيه الحب فى الله ووالدى الأستاذ الكبير ومعلم الأجيال وقد رأيت فيهما أسمى معانى الرقى الأنسانى والسمو الروحى واللغوى والخلقى فكيف أترك كل هذا الثراء وأذهب الى المجهول!!!.

ولكل هذا سافرت بجسدى تاركا روحى متعلقة هناك ببلدى مصر حتى الجسد نفسه أشتاق بأن يدفن فى ترابها ولايعرف الشوق إلا من كابده ولا يعرف الصبابة إلا من يعانيها ولا يعرف طعم الغربة الا من تغرب ومن ذاق عرف.

مشوار طويل ذو أحداث كثيرة وبداية مثيرة رأيت أن أشاركم أصدقائى وأحبائى الذين أعتز بهم كل الأعتزاز عرضا لبعض الدروس المستفادة والخبرات المكتسبة وفى الغد ان شاء الله أبدأ معكم بكيف تولدت الفكرة فى أتجاه الى الهجرة.

حكاية مهاجر (1)

ولادة الفكرة فى عام الحزن 1981

حكاية مهاجر ولماذا هاجر وكيف تولدت فكرة بعيدة كل البعد عن شخصيته المحبة والعاشقة بلا حدود لكل ماهو حوله ..عاشق لتراب بلده..عاشق لأهله وأصدقاءه وهم الذين من أطلق عليهم صفة كوكبة الكرام..عاشق لشيخه الذى تعلم منه وأصبح يراه هو وجمعه فى منامه ..عاشق لبحر مدينته الذى لايهدأ له نفس الا بعد أن يستنشق نسيمه كل يوم...عاشق لناديه ومحبيه...كان اخر انسان من الممكن بأن يفكر فى الرحيل واليكم البداية.

بدأ عام 81 برغبة منى لعمل جولة خارج مصر على أن تكون أول محطة هى بغداد بالعراق لزيارة شقيقى الأكبر الدكتور نبيل الذى أستقدمه الرئيس صدام حسين مع مجموعة من العلماء المصريين وكان منهم الدكتور الشهيد يحيى المشد للتدريس بالكلية الفنية العسكرية على أن تنتهى جولتى بزيارة لأمريكا وقصدت أحد أقاربى فى مساعدتى للحصول على التأشيرات وهو سعادة السفير فتحى دراز رحمه الله وأعطيته جواز سفرى وبعد أسبوع رن جرس الهاتف بالمنزل وكان على الخط الجراح الكبير الدكتور عصام السهوى وكان صديقا للأسرة وتحدث مع والدى بشأن مرض والدتى ست الحبايب التى عولجت على مدار ربع قرن على أنها تعانى من غدة المرارة وقال أنه عائدا لتوه من مؤتمر للجراحات بأمريكا وأن عملية ازالة المرارة لم تعد صعبة ولا داعى للمعاناة التى تعانيها أمى وأقترح أن يقوم بعملية لها لأستئصال المرارة وأستجاب أبى وتحدد الموعد بمستشفى المواساة ولكنى أصبت بأضطراب كبير هذه أول تجربة جراحية مع أمى وجاء اليوم الموعود ولاحظ الدكتور عصام حالتى النفسية فأمسك بيدى قائلا...أطمن وعلشان خاطرك سوف أسمح لك بالدخول الى الحجرة الزجاجية لتتابع بنفسك خطوات العملية...وبالفعل دخلت وبالتالى دخلت الأسرة كلها معى وبدأت أجراءات العملية وشاهدت الجراح الذى أشتهر بثقته الشديدة وجدارته المتمكنة وهو يفتح وماهى الا ثوانى حتى حدث أضطراب شديد وحركة غير عادية وبدا عليه عصبية شديدة وهو يصرخ فى وجه فريق الجراحة ولحظات مرت وكأنها دهر وأذا به ينهى الجراحة ويغلق الجرح ويخرج من جيبه علبة سجائر ويشعل سيجارة وهو متجه للخروج ودخل علينا مطئ طئ الرأس ولم ينظر لأحد سواى ولف ذراعه حول عنقى ليسير بى بعيدا وبدأت كلماته كسكين يقطع فى قلبى..(أسمع ياأبنى أنا عارف قد أيه بتحب والدتك وعارف أنك الأقرب لها بس أنا عارف كمان أنك شاب متدين وتعرف ربنا ولا أستطيع خداعك والدتك ياناجى ولدت بدون مرارة أصلا وعولجت خطأ لأن أشعة الصبغة لاتستطيع التفرقة مابين الغدة والورم فى هذا المكان ولهذا تسرطن الورم وأنتشر لدرجة لم أراها من قبل بل لا أعرف كيف أحتملت هذه السيدة تلك الألام ولا أريد أن يخدعنا أحد بنقلها للخارج وأنا كطبيب باأقولك ماما أمامها ثلاثة أشهر على أقصى تقدير ...خليك جنبها وأوعى تحسسها بحاجة...خليك راجل مؤمن بقضاء الله).

ودارت بى الدنيا وأنهرت بكاءا على أغلى الناس ليس فقط لأنها أمى ولكنها كانت من الفضليات الراقيات فلم أسمع منها سوءا فى حياتى بل لم يحدث أن أرتفع صوتها على أحد كانت مثالا للطيبة والخلق وكان لابد وأن أتماسك فأنا أصغر أبنائها الذى يعيش معها وبدأت رحلة العذاب لأصطحبها للمستشفى لتلقى الكيماوى كمحاولة أخيرة وألتصقت بها فطوال الليل بجوارها أقرأ كتاب الله الى أن يؤذن الفجر فأنهمر فى البكاء وعندما جاءت اللحظات الأخيرة كان يحدث لها نزيفا ونطلب الأسعاف التى تدور على المستشفيات فترفض أستقبالها الى أن علم أحد أطباء الطوارئ أن طبيبها المعالج هو الدكتور رفيق زاهر عميد كلية الطب فأدخلها وطلب نقل دم وندور فى رحلة ألم وعذاب بحثا عن كيس دم بمستشفيات الأسكندرية فلا نجد حتى بنك الدم يرفض وعدنا بها للمنزل لتدخل فى غيبوبتها الأخيرة وذات ليلة كان حولها جمع من الأسرة وسيدة فاضلة جارة لنا وكانت لى كالأم واذا بأمى تنهنه وتنطق بأسمى فأعتبرت الجارة العزيزة أنها توصية لها من أمى على ..وعادت لغيبوبتها حتى صعدت روحها الى بارئها... ياألهى ماتت أمى.. ماتت من كنت أرحم لأجلها..ماتت وماتت معها الفرحة فى قلبى.

وفى شادر العزاء حضر قريبى ووضع فى يدى وهو منصرف جواز سفرى وعليه التأشيرات فقلت له لم تعد لى رغبة فى الحياة.

تم نسخ الرابط