«أفراح إبليس» في يوم الخميس بأسوان (تقرير)

ما الذى تعنيه كلمة يوم الخميس فى اسوان، إنها البهجة المطلقة المرتبطة بعودة الغائب ولقاء المحبين وتقارب المتباعدين وتحقيق الأمنيات، الجميع على موعد فى ذلك اليوم السعيد الذى يبدأ بصباحاته الدافئة، ثم يتوقف اليوم ولا يمضى عندما يفضى المحبون بأسرارهم فى ليله يرتبط هذا اليوم بصناعة الحياة، ففى اسوان يتفق الناس ويختلفون حول مواسم الزواج، هل تكون فى الصيف أم فى الشتاء؛ لكنهم يتفقون على شىء واحد، أن الفرح حتمًا سيكون يوم «خميس».«يوم الخميس وتعالى يوم الخميس يا تاجر الحنة وتعالى يوم الخميس وكتر الحنة علشان نحنى العريس يا تاجر الحنة».. هذه الأغنية تتغنى بها الأمهات فى اسوان، والتى يدخلها باحثو الموسيقى فيما يطلق عليه «التحانين»، وتكون مرتبطة بحالة من الحنين والشجن، كانت تثير فينا إحساسًا غريبًا بمعنى الفرح ومعنى يوم الخميس، عندما تبدأ الأمهات معًا فى صوت واحد الغناء يصمت الجميع، ويهدأ الصخب، وتخرج جنيات النهر ليرددن معهن، وفى نهاية الأغنية تمسح الأمهات دموعهن التى سالت فرحًا.في ليلة الخميس يتحرر الرجل من كل شىء، يفتح مسامه ليتخلل الفرح تكوينه، ويعانقه حدّ الامتزاج، تتحرر الروح من جسدها وتحلق فى سماوات الله، يتحرر الجسد من سطوة الروح المهندمة التى تأكل وتشرب وتحب وتكره وتصدق وتكذب، وتمارس الجنس بحساب، وهنا يسقط الجسد المتحرر كتفاحة فى سرير تسترخى فيه السيدة التى فى كامل بهائها، تخرج أنفاس الرجل محملة بنشوة الدخان الأزرق لتسكن رئتى المرأة، وترتفع حرارة المرأة فتوقظ الجمرة التى كادت أن تنطفئ فى جسد الرجل، تمتد ليلة الخميس، يدور الدخان الأزرق فى دوائر لا نهائية، لا تتقاطع ولا تتخاصم ولا تنتهى، ويدور الجسدان فى دائرة واحدة لا حدّ لها، ولا مخرج منها، بينما يلمع صوت أم كلثوم مجلجلا: «هذه ليلتى وحلم حياتى».وكنت أظن أن «يوم الخميس» ثقافة مصرية خالصة، بل وصل بى الظن إلى أن أصل الشعور بالبهجة وصناعتها تعود إلى الحضارة الفرعونية، لكن البحث السريع أثبت لى أنها ثقافة عربية أيضًا بالطبع لا يمكن أن يمر يوم الخميس مرورًا باهتًا على أرض اسوان، فنجد النوبيين يغنو عن يوم الخميس بما يقارب الطريقة المصرية يقولون: «الله يا يوم الخميس أحلى الأغانى والفرح يوم الخميس العرايس زافيهم بالهنا والشموع والحبايب من الفرح ضحكوا حتى الدموع يا عروسة حطى إيديك يا الله بإيدين العريس».ربما تعود قصة ليلة الخميس مع الحشيش والجنس والأفراح إلى سياق زمنى أبعد مما نتذكر، فارتباط اليوم بالحشيش ربما أبعد أيضا من تاريخ نشأة جماعة الحشاشين وكبيرهم الحسن الصباح، فلا شك أن آلاف الممسوسين ببهجة الدخان الأزرق جمعهم به لقاء فى ليلة خميس، وملايين المربوطين بشهوة اكتمال الجسد بالجسد، غنّوا أغنياتهم البهيّة فى ليلة خميس، وملايين من «دخلوا دنيا» دخلوها يوم الخميس، ولكن متى تحول الخميس إلى عيد قائم بذاته وطقس يُستعد له ويُبذل من أجله كل غال ونفيس؟ أى إجابة عاقلة تعى قدر ما تحمله ليلة الخميس من بهجة ومتعة وخروج على الأطر والدوائر المغلقة، واحتباس الروح فى قمقم الواقع الضاغط طيلة ستة أيام فى الأسبوع، ومتى تحول هذا اليوم المسحور إلى يوم الهجرة من الوحدة وبداية الاقتراب بشريك العمرهنا نحن نبحث عن يوم الخميس، ذلك اليوم الذى كان من أكثر الأيام تميزًا لما يحمله من مباهج، كل شىء كان مبهجًا فى ذلك اليوم، تستطيع أن تقول إنه كان عيدًا للحواس الخمس، أو أنه اكتسب اسمه من قدرته على إشباع الحواس الخمس، فكان يوم الخميس يوم المتعة المتكاملة.. فمك يتمتع بتذوق أشهى الأطعمة، أذنك تتمتع بسماع «الست»، عينك تتمتع برؤية الأحبة والأصدقاء، أنفك تتمتع بالروائح العطرة القادمة من أطيب الطعام أو من أحب النساء، جسدك يتمتع بلقاء موعود أعددت له العدة وهيأت له الروحكان يوم الخميس عيدًا أسبوعيًا، يجدد فيه الواحد شباب أيامه.. محطة من محطات البهجة، يسعد بها المصريون بكل شىء وأى شىء، وحينما غابت هذه الطقوس عن أيامنا صار كل شىء شبيهًا بأى شىء، ومرت سنواتنا دون أن نشعر، وهنا نحاول أن نسترجع ما فات، أن نقول للزمان «ارجع يا زمان»، فالأمر بيدنا، ويوم الخميس مازال يأتى كل أسبوع. لقرون طويلة حافظ الناس فى انتظام واتزان على قراءة الوقت، يبدأ الأسبوع بيوم السبت وصولا إلى الجمعة، ولكن فى غفلة من الزمن والأيام، وفى سرقة مفاتيح الأسبوع، فأصبح فجأة ودون سابق إنذار يبدأ من يوم الخميس، وينتهى فى ليلة الخميس، وفى مقام الاقتراب من ليلة الخميس المقدسة، يحق التساؤل عن مبعث اختيار هذه الليلة بالتحديد لتخليدها، ووضعها فى كتاب البهجة والانفلات من كل قيد أو ضغط، وقد يرد البعض الأمر إلى أنها الليلة المسبوقة بيوم الإجازة، ولكن محافظة جموع الباحثين على قدسية الخميس وثباته، حتى لو أجبرتهم وظائفهم على إجازات أخرى غير «الجمعة»، تدفع فى اتجاه البحث عن سبب آخر غير الإجازة. ربما لو عدنا قليلا إلى الوراء يمكننا الوقوع على سبب، بين القرنين الخامس والسابع الهجريين، ظهرت طائفة من الشيعة الاسوانيه النزارية، بعد انفصالها عن الفاطميين، وعُرفت بـ«الحشاشين»، تزعمها حسن الصباح، وعُرف عنها إلى جانب الخروج على الخلافتين الفاطمية والعباسية، والتحصن فى القلاع وقمم الجبال، أنها كانت تُجند أتباعها بعد تخديرهم بالحشيش، ومن هذا أخذوا اسمهم الشهير، ثم إفاقتهم فى قصر فخم ملىء بالجوارى والمغريات، وكأنها الجنة، ليعودوا لتخديرهم ثانية بالطريقة نفسها وقد أروهم الجنة، ما يضمن لهم إذا طلبوا منهم قتل أنفسهم أو تنفيذ عملية لا أمل فى العودة منها، أن ينفذوا طمعا فى الجنة التى شاهدوا وذاقوا متعتها، ووفق مصادر عدة كانت أغلب هذه العمليات تحدث فى أيام الخميس، ليخرج من وقع عليه الاختيار من الجنة إلى روحانية الجمعة وأجواء الصلاة، فيزيد هذا الأمر ثبات الفكرة فى روحه على أرضية من الدين والاعتقاد. ربما مع امتداد الأيام وزوال أسطورة الحشاشين، حافظ الناس على مساحة الخروج من العالم فى ليلة الخميس، الاقتراب من الجنة، الغياب عن الوعى، التفلت من القيود والأطر والضوابط المعهودة، على أمل العودة فى اليوم التالى لتجديد الرباط مع الله، وتكفير لحظات البهجة الكاسرة للنواميس والقوانين فى الليلة السابقة، وهكذا صنع الدين أسطورة ليلة الخميس. يخرج العامل لمصنعه، والطالب لجامعته، والطبيب لعيادته، والمهندس لموقعه، والبائع لسوقه، لا شىء فى أدمغتهم ومدى نظرهم، إلا الركض على جثة الأسبوع حتى يفرغوا منه، يبدأون من اللحظة الأولى الاستعداد لاستقبال اللحظة الأخيرة، يوفر الطالب من مصروفه، والعامل من قوت يومه، والمريض من صحته، ما يكفى بالكاد لاقتناص قطعة صغيرة من البهجة، بحجم «تعريفة قديمة» من الحشيش، منبع الدخان الأزرق ومصب الوعى والأوهام، وفى أحيان لا يستطيع البعض الصبر لرؤية الدخان الأزرق، فيكتفون بقرص دواء «أزرق»، المهم أن تكون ليلة الخميس ملوّنة، بما يكفى لتلوين أسبوع جديد، على وعد آخر باللقاء. ولا يحق لنا هنا أن نفصل يوم الخميس بأفراحه المنتشرة عن يوم الخميس بلياليه الحمراء، فأشهر أغانى هذا اليوم هى أغنية «يا ولاد بلدنا يوم الخميس هاكتب كتابى وأبقى عريس»، ومازال هذا المشهد الأثير الذى تستدعيه ذكرى ليلة الخميس محفورا بملامح صلاح منصور «العمدة» فى فيلم «الزوجة الثانية»، بينما تخاطبه زوجته «حفيظة»، سناء جميل، بحدّة قائلة: «الليلة يا عمدة»، منتزعة إياه من عروسه الجميلة سعاد حسنى، وبينما لم يُصرح الفيلم بأن الليلة «ليلة خميس»، ولكن ربما لارتباط الأفراح بالدرجة الأكبر بهذه الليلة، لا يمكنك العبور على هذا المشهد دون تذكر ليلة الخميس. سهرة الخميس.. رحلتها من «اليوم المفتوح» إلى الـ«فيس بوك».. وجبات البهجة لم تنقطع عن التليفزيون المصرى فى هذا اليوم بداية من اضحك كركر وحتى أوسكار