عصام التيجي يكتب: ما تراه ليس كما يبدو

ليس هناك أبلغ من هذا العنوان ليكون متصدّرًا مقالي هذا ، وهو ذاته الذي اختاره صُنّاع العمل الدرامي المعروض حاليًا على إحدى القنوات الفضائية، وبات حديث المتابعين ومحبي الدراما المصرية، حتى تصدّر بلغة السوشيال ميديا قائمة "التريند"، فهذا العنوان يوقظ فينا الحس النقدي بما يحمله من أبعاد فلسفية تدعونا إلى التدبر والتفكير في أن ما نراه بأعيننا قد لا يكون هو الحقيقة الكاملة، وأن خلف الصورة الظاهرة عالمًا آخر يضج بالأسرار والدلالات.
فهذا العمل الدرامي نجح في اقتحام العوالم الخفية للنفس البشرية بجرأة استثنائية، وتناول موضوعات بالغة الخصوصية والتعقيد ، قد يصعب على العقل البشري استيعابها أو تصديقها في نظرته التقليدية للحياة.
ويقوم العمل على بناء قصصي متفرّد ، حيث يقدم مجموعة من الحكايات المختلفة، كل منها تتكون من خمس حلقات منفصلة ، لكنها جميعًا تدور في إطار فكرة واحدة : "أن ما نراه ليس دائمًا ما يبدو لنا في حقيقته" ، ومن خلال هذا الطرح ، يضع يده على مشكلات حياتية معقدة ، متشابكة مع أفكارنا، ومتداخلة مع أسرار التكوين النفسي والوجداني للإنسان.
فالمسلسل لا يكتفي بسرد حكايات مشوّقة ، بل يطرح تساؤلات حول حقيقة الوجود ، وحدود الإدراك ، ومفهوم الحقيقة ذاته ، هل ما نراه حقيقة ؟ أم مجرد انعكاس هشّ لزوايا نظرنا ؟ وهل نحن أسرى عقولنا ، أم أسرى ما يُملى علينا من صور ومفاهيم مسبقة ؟ هنا تتجلى القيمة الفلسفية للعمل ، حيث يتحوّل من مجرد دراما إلى رحلة بحث وجودية.
بين النفس والواقع الافتراضي.
ولعل أبرز ما ميّز هذا العمل الدرامي أنه لم يكتفِ بالطرح العام ، بل قدّم قصصًا محددة تمس وجدان المتلقي مباشرة:
فعلى سبيل المثال وليس الحصر ، قصة "انت وحدك" فتحت بابًا واسعًا للتأمل في الوحدة الإنسانية ، تلك التي لا ترتبط بالوجود المادي للأشخاص بقدر ما ترتبط بالفراغ الداخلي الذي ينهش الروح ، فالشخصية الرئيسية التي قدمتها الفنانة تارا عماد ببراعة بدت محاصرة بأفكارها ، كأنها تصارع مرآتها لا العالم من حولها ، هنا استطاع صُنّاع العمل تقديم صورة مكثفة لمعاناة نفسية قد يعيشها أي إنسان دون أن يبوح بها.
أما قصة "الوكيل" جاءت كصرخة في وجه العالم الافتراضي الذي يلتهم خصوصية البشر ويدفع البعض إلى البحث عن هوية زائفة خلف الشاشات ، العمل عرض كيف يمكن أن يتحوّل حلم الشهرة السريعة إلى فخ نفسي واجتماعي ، وكيف يمكن أن تبتلع المنصات الإلكترونية براءة الشباب وتُحوّلها إلى هوس يقود أحيانًا إلى نهايات مأساوية.
هاتان القصتان وغيرهما رغم اختلافهما، تلتقيان في الفكرة الكبرى : أن ما يبدو على السطح ليس الحقيقة الكاملة، الوحدة قد تخفي صراعًا داخليًا مدمّرًا ، والصورة اللامعة على الشاشة قد تكون ستارًا هشًّا يخفي ضعفًا إنسانيًا شديدًا.
الرؤية الإخراجية والأداء التمثيلي
تعامل المخرجون مع النص بوعي شديد ، فجاءت الكاميرا كعين ثالثة متوغلة في أعماق النفس الإنسانية ، لا تكتفي برصد الملامح الظاهرة بل تكشف ما وراءها ، الإضاءة والظلال لم تكن مجرد عناصر تقنية ، بل أدوات نفسية تعكس التناقض بين ما يبدو وما يُخفى ، وحركة الكاميرا الهادئة حينًا والمتوترة حينًا أخر أسهمت في تكوين مناخ بصري مشحون بالأسئلة.
أما الأداء التمثيلي فقد حمل الفنانون الفكرة على أكتافهم ، كل ممثل بدا وكأنه يعرّي نفسه أمام الكاميرا ، مقدّمًا مشاعر متناقضة بين الضعف والقوة ، بين العقل واللاوعي ، لم يكن الأداء مجرد تجسيد لشخصيات مكتوبة ، بل كان أشبه بمرآة لجزء دفين في أعماق المتلقي نفسه.
"ما تراه ليس كما يبدو" لم يكن عملًا دراميًا تقليديًا ، بل بانوراما إنسانية صادقة، قدّم لنا مرايا تكشف ضعفنا وقوتنا ، وحدتنا وأوهامنا ، علاقاتنا وأطماعنا، الحد الفاصل بين الواقع والوهم.
إنه عمل يستحق التوقف عنده طويلًا ، لأنه ببساطة أيقظ فينا السؤال الأعمق : هل نملك الشجاعة لنرى الأشياء كما هي؟.