كاليجولا.. أشهر طاغية في التاريخ الإنساني
حظي العالم الروماني القديم على العديد من الأحداث، وتميّز عن غيره من العوالم الأخرى؛ بسبب مكانته القديمة والتي تعود لأكثر من ألف وثماني مائة عام؛ حيث كان ينعم في ظل الحكومة الرومانية الموحّدة بالسلام وسيادة القانون والنظام والرخاء، ولكن قبل ذلك هناك قصة لن تُنسى رغم محاولة حذفها من التاريخ الروماني.
قصة أشهر طاغية في تاريخها، يدعى "غايوس يوليوس قيصر" أو ما يُعرف بـ كاليجولا، هو الإمبراطور الروماني الثالث، عُرف بوحشيّته وغبائه ومرضه بجنون العظمة المنتشر في نفسيته بدون أي ضوابط ليصبح أحد أكثر الطغاة في تاريخ الإمبراطورية الرومانية.
"غايوس قيصر" حكم الإمبراطورية الرومانية في الفترة من 37 إلى 41 ميلاديًا، وعندما ولد كان حكم الإمبراطور "أوغسطس" قد وصل إلى نهايته، فقد تدهورت صحته وكان يجب تجهيز وريث العرش من بعده، لذلك قام بتعيين الإمبراطور تيبريوس، وكان تيبريوس قائد غير محبوب نظرًا لمواقفه السياسية السابقة، وكان اختياره وريثًا للعرش مع شرط واحد، وهو أنه إذا تم رفضه من قِبل شعب روما سوف يكون مجبرًا على ترك العرش لجيرمانيكوس والد كاليجولا.
كاليجولا كان ترتيبه الثالث ضمن ستة أبناء، وكان جده الأكبر هو يوليوس، قيصر الإمبراطور الروماني الشهير، وكان والده جيرمانيكوس محبوبًا من الشعب الروماني، وأمضى فترة طفولته في الحصون العسكرية يشاهد المحاربين كيف يقاتلون ويتعلم منهم فنون المُحاربة، ومنذ ذلك الحين أظهر حبه وولعه بالحرب، فخاطت له أمه بذلة عسكرية صغيرة مع حذاء عسكري وكان يذهب بهما إلى تلك الحصون، ومنذ ذلك الحين أطلق عليه الجنود لقب "كاليجولا" أي المجند صاحب الحذاء الصغير، ورافقه هذا اللقب طيلة حياته.
توفى الإمبراطور "أوغسطس" في عام 14 ميلاديًا، وبعدها تولى نجله "تيبريوس"، الحكم، وعمل على قتل واضطهاد عائلة "كاليجولا" حتى لا يكونوا ورثة للعرش في يوم من الأيام، وفي عام 37 ميلاديًا توفى الإمبراطور تيبريوس، وظهرت شائعات بأن "كاليجولا" قد قام بخنقه، ولكن لم تلق الشائعات أي صدى لدى معظم الناس، فقد كان الرومان سعداء بموت الإمبراطور الطاغية، وفي هذا الوقت أصبحت السلطة في يد كاليجولا بشكل جزئي، وكان الناس يعتقدون أن كاليجولا يمتلك نفس صفات والده العظيم، وقام مجلس الشيوخ الروماني بتنصيب الإمبراطور كاليجولا البالغ من العمر 24 عامًا وقتها، والذي لم يكن يملك أي خبرات في الحكم والدبلوماسية أو الحروب.
في بداية فترة حكمه الذي لم يتخط إلا سنوات قليلة، قام الإمبراطور كاليجولا بالكثير من الأعمال الجيدة والحماسية من وجهة نظر الشعب، لعل أبرزها إطلاق سراح المواطنين الذين سجنهم الإمبراطور السابق ظلمًا، وألغى الضرائب، فضلًا عن إقامته العديد من الاحتفالات والمسابقات التي تسعد الشعب الروماني مثل سباق العربات، والمسرحيات وعروض المصارعة.
وبعد ستة أشهر من حكمه، أصيب بمرض شديد وظل بين الحياة والموت لمدة شهر تقريبًا، وخيّم الحزن على روما؛ بسبب مرض "كاليجولا"، ومع أن المؤرخين لم يذكروا طبيعة المرض، إلا أن المؤرخين يرجحون بأن إفراط الإمبراطور في الاستحمام وشرب الخمر وممارسة الجنس كان السبب الرئيس لمرضه، كما أن كاليجولا كان يعاني من مرض الصرع منذ طفولته، ولابد أن هذه الأمور مجتمعة قد أدت إلى مرضه.
تعافى الإمبراطور "كاليجولا"، في أكتوبر من عام 37 ميلاديًا، تمامًا لكنه تغير لحد كبير من حيث الشخصية وأصبح بالفعل مجنونًا ويتباهى بسلطته، وقام بالقضاء على منافسيه السياسيين، وأجبر الآباء على مشاهدة إعدام أبنائهم، ولكن الأمر الأكثر غرابة هو إعلان الإمبراطور كاليجولا أنه "إله حي"، وكان يريد بناء جسر بين قصره وبين كوكب المشترى، حتى يتمكن من إجراء مشاورات مع الآلهة، بحسب زعمه.
أصبح كاليجولا أيقونة للشر وأصابه جنون العظمة، فبدأ الشعور بأنه إله على الأرض، وأن العالم مُسخّر له ولخدمته، فبنى تماثيل ضخمة لنفسه، كما قام بنقل بعض الآثار الفرعونية من مصر إلى مناطق أخرى واستبدالها بمعابد له، وبعد أن أمر بقتل جميع الصلعان لأنه يكره الصلع، رغم أنه كان "أصلع"، وفي يوم ما نظر إلى السماء ليلاً ووجد القمر بدرًا، فشعر بأن القمر ليس من ضمن ممتلكاته فأمر حراسه بإحضار القمر إليه!، عجز الحراس عن فعل ذلك فدخل في موجة من الحزن الشديد، وكثيرًا ما كان يبكي بسبب هذه الحادثة، فعلى الرغم من كل عظمته وقوته فإنه لا يستطيع أن يمتلك القمر!.
شخصية كاليجولا، من أبرز مظاهر جنونها ما فعله عندما وجد أن فترة توليه الحكم كانت خالية من المجاعات والأوبئة وبذلك لن يتذكره أحد من الأجيال القادمة لعدم حدوث كوارث في عهده، فقرر إحداث مجاعة بنفسه في روما؛ إذ أغلق جميع مخازن الغذاء واستمتع بمشاهدة الناس يموتون ببطء، وقال جملته الشهيرة: "سأكون أنا بديلاً لكم عن الطاعون!".
عُرف كاليجولا بأشهر طاغية في التاريخ، وكان للغباء دور مهم في تصرفاته؛ ففي أحد الأيام دخل إلى مجلس الشيوخ ممتطياً صهوة جواده، العزيز "تانتوس" معلناً جواده عضوًا في مجلس الشيوخ!، وبالطبع لم يرض كاليجولا أن يمر هذا الحدث العظيم دون احتفال، فقرر إقامة مأدبة طعام لتعيين جواده رسميًا عضوًا في المجلس، ويوم الحفل فوجئ الجميع من هول ما شاهدوه؛ إذ كانت المأدبة ما هي إلا مأدبة تبن وشعير مُلئت بها جميع الأطباق، شاهد كاليجولا ملامح الدهشة على وجوههم فقال متغطرسًا: "إنه لشرف كبير أن تأكلوا مثلما يأكل جوادي".
لم يتوقف غباؤه عند هذا الحد فقد حرك جيشًا من قواته وكان هو بنفسه على رأسهم، وأمر جميع الجنود بالبحث عن الصدف وجمعها، وحين عاد أخبر السكان وأفراد حاشيته بأنه خاض معركة مع إله البحر وانتصر عليه واستطاع أن يحضر هذه الأصداف كدليل على فوزه بالمعركة.
سرعان ما بدأ الغضب يسيطر على نفوس شعب روما تجاه الإمبراطور، في يومٍ ما وأثناء حمله على أحد المواكب، سخر من أحد الحراس المُرافقين له ووصفه بأنه يشبه المرأة، كما قام باغتصاب زوجة حارس آخر مما أدى لحقد هؤلاء الاثنين عليه، مرت الأيام وازداد حقدهما وكبر يومًا بعد يوم، وتحديدًا في عام 41 ميلاديًا كان كاليجولا يسير وحيدًا في أحد الممرات المظلمة في قصره، فلمح الحارسين في نهاية الممر، وما إن وصل إليهما حتى انهالت عليه الطعنات من كل حدبٍ وصوب، وطعن بنحو 30 طعنة، ما أدى إلى مقتله، وإلقاء جثته في قبر عميق، ثم قاموا بقتل زوجته وابنته أيضًا، واضعين بذلك حدًا لتلك الشخصية التي جمعت بين الجنون والغباء والوحشية.
بعد وفاة كاليجولا، أصدر مجلس الشيوخ أوامر بتحطيم تماثيله على أمل حذفه من تاريخ روما إلى الأبد، ومع ذلك وعلى الرغم من مرور أكثر من ألفي عام على حكم الإمبراطور كاليجولا، يعتبر إرث الإمبراطور كاليجولا جزءًا مهمًا من التاريخ الروماني.
كاليجولا لم يكن مجرد طاغية، بل كان نموذجًا للشر والقسوة والوحشية، وأفعاله التي لم يفسرها بشر، فسرها العلماء على أنها اضطراب نفسي.