بلدنا اليوم
رئيس مجلس الادارة
د/إلهام صلاح
رئيس التحرير
وليد الغمرى

عاقبت إسرائيل واحترقت لفلسطين.. «بلدنا اليوم» تحاور الأسيرة المحررة إسراء جعابيص

إسراء جعابيص - محررة
إسراء جعابيص - محررة بلدنا اليوم

"الفرق بين السجن الداخلي والسجن الخارجي محدود.. فكلاهما قيد وحصار، لكن التحدي الأكبر يكمن في كيفية الحفاظ على إرادتنا ومقاومة هذه القيود بكل الوسائل الممكنة".. خرجت إسراء جعابيص، الأسيرة الفلسطينية المحررة بهذه الكلمات بعد ٨  سنوات اعتقال في سجون الاحتلال الإسرائيلي.. لم تنكسر رغم أنها احترقت لتكون إحدى أشجع شمعات النضال الفلسطيني على طريق التحرير.. قالت لآسريها: "أنتم تعاقبونني، لكنني سأعاقبكم بثباتي وكرامتي".. إنها بنت الألم النبيل.. ألم الكرامة والتحرر.. الأديبة الموجوعة المحترقة إسراء جعابيص.. التقيناها في "بلدنا اليوم" فكان هذا نص الحوار:

لماذا اخترتِ اسم "موجوعة" عنوانًا لعملك الأدبي الأول؟

اسم "موجوعة" لم يكن مجرد تعبير عابر، بل خرج من قلبي في لحظة ضعف ووجع عميق. كنت في المحكمة، وسألني أحد أفراد عائلتي: "مالك؟" أجبته بكلمة واحدة: "موجوعة"، لم تكن كلمة فقط، بل كانت حالة عشتها بين المحاكم والتنقلات، تحت العقوبات، والحرمان من أبسط الحقوق؛ من الزيارة والكانتين وحتى المعاملة الآدمية.

أردتُ من العنوان أن يعبّر عن الجانب الإنساني الحقيقي لما مررتُ به، لكنني في الوقت ذاته أؤكد أنه ليس فقط عن الألم، بل عن الأمل أيضًا. نعم، الموجوعة تتحدث عن وجعي، لكنها أيضًا تحكي عن قدرتي على الصمود، والتحدي، والاستمرار في الحياة رغم الجراح.

كنت أردد دائمًا: "أنتم تعاقبونني، لكنني سأعاقبكم بثباتي وكرامتي". كلمة "موجوعة" تحولت في نظري إلى نقطة قوة، وليست ضعفًا.

هناك من يحمّل المقاومة الفلسطينية مسؤولية ما يحدث في غزة.. ما رأيك؟

أنا فخورة بكل المقاومين، وأشكرهم جميعًا، وعلى رأسهم المقاومات – النساء اللواتي يحملن همّ القدس والأقصى. ما يفعلونه هو من أجلنا جميعًا: من أجل الأمهات، من أجل النساء على بوابات المسجد الأقصى، من أجل أطفالنا الذين يُقتلون بدمٍ بارد، ومن أجل الأسرى والأسيرات داخل السجون.

المقاومة لا تدافع فقط عن أرض، بل عن كرامة كل فلسطيني لا يملك وسيلة للدفاع عن نفسه. كل قطرة تعب وشقاء من المقاومين هي فعل من أجلنا. ومن يحمّلهم المسؤولية، يتجاهل أن الاحتلال هو الجاني الحقيقي، والمقاومة هي الرد الطبيعي عليه.

ما أول صدمة تلقيتِها داخل السجن؟

أول صدمة فعلًا كانت إني دخلت السجن أصلًا. بس كمان، قبل السجن، في فترة التحقيق، تعرضت لشيء صعب جدًا…
كانوا يستخدموا نساء تانيات عشان يستفزوني نفسيًا، يعملوا تصرفات تقصد إنها تزعجني أو تحرجني، بهدف الضغط عليّ نفسيًا.

كيف تصفين السنوات الأولى في السجن، خاصة بدون عمليات جراحية؟ وكيف كان شعورك تجاه المرايا؟

تعاملت مع المرايا عادي جدًا، ما كنت أتهرب منها.

لكن من أكبر الصدمات اللي واجهتها كانت رؤية الأطفال القاصرات داخل السجون.

لكن حتى قبل دخولي إليه، وأثناء التحقيق، واجهت صدمة من نوع مختلف؛ إذ كانوا يتعمّدون استخدام نساء أخريات لإزعاجي نفسيًا، من خلال حركات وتصرفات مقصودة، بهدف إثارة ضيقي وكسر معنوياتي.

كيف تصفين السنوات الأولى في السجن.. خاصة في ظل حرمانك من إجراء العمليات الجراحية؟ وكيف تعاملتِ مع صورتك في المرآة؟

تعاملت مع المرآة في السجن بشكل طبيعي إلى حد بعيد، لم أتجنبها.

لكن من أقسى ما واجهته خلال تلك السنوات رؤيتي لفتيات قاصرات داخل الزنازين، وهو مشهد مؤلم لا يُنسى.

وقد ساعدني على الصمود التفكير في ابني، كنت أراقب سلوك القاصرات وكيف يتفاعلن معي، محاوِلةً من خلالهن تخيّل كيف سيكون موقف ابني مني حين يراني، وماذا سيشعر نحوي.

هل أُتيحت لك لحظات تواصل حقيقية مع ابنك خلال فترة الأسر؟

نعم، لكن ذلك لم يحدث إلا بعد سنة وسبعة أشهر من اعتقالي.

وكيف كان اللقاء الأول بينكما؟

كنت أرتدي ثوبًا من قماش مطبوع بنقوش النمر، صنعته بنفسي داخل السجن.

ارتديته لأجله، أردت أن أُفرحه، أن أقول له بطريقة غير مباشرة: "ما زالت أمك هي أمك، رغم كل شيء".

لكنه قال لي: "اخلعيه، أنتِ أمي، وأنا أعرفك... ما في داعي".

رفض أن أرتدي هذا الثوب، رغم أنني ارتديته فقط لأخفف عنه، لا لأخفي شكلي، فهو كان يعرف جيدًا ما حدث لي، من الصور، ومن الإعلام، ومن الناس.

هل ما زالت هناك أشياء لم تستطيعي التأقلم معها حتى الآن؟

نعم، الناس.. أنا أتواصل معهم وأتحدث إليهم، لكن هناك دائمًا حاجز نفسي عند البعض.
فكرة أن يروا شخصًا قد تغيّر شكلًا بفعل الحروق ليست سهلة، البعض لا يستطيع تجاوز هذا الحاجز، أو لا يتقبّله بسهولة، وهذا ما يُتعبني أحيانًا.

قلت إن أزمة السجن انتهت لكن بدأت أزمة اللجوء... ماذا يعني ذلك؟

بالفعل، منذ اللحظة الأولى لخروجي من السجن، بدأت مواجهة من نوع آخر.

كيف سارت حياتك بعد الإفراج؟ كيف كانت لحظاتك الأولى؟

عندما دخلت القدس، كان لدي شعور دائم بأنني مهددة بالاعتقال في أي لحظة.

الاحتلال كان يراقبني ويُضيّق عليّ وعلى أسرتي، كان هناك تهديد واضح لأهلي، لأشقائي، وكانت الطائرات المسيّرة تحلق باستمرار، وأحيانًا تمر سيارات شرطة تراقب وتختفي.

كل ذلك أشعل داخلي نار الخوف، وأيقظ الرعب من أن يُعاد اعتقالي قبل أن أتلقى العلاج الضروري.

كان العلاج هو الأولوية؟
نعم، كان الألم الجسدي هائلًا، والتسع سنوات في الأسر دون علاج تركت أثرًا كبيرًا.

كنت أعلم أن صحتي تتدهور، وكنت بحاجة ملحة لعلاج يديّ، فقررت أن أستغل أي فرصة ممكنة لذلك.

هل كانت الأردن محطتك الأولى للعلاج؟
نعم، لجأت إلى الأردن من أجل العلاج. كنت أريد أن أتلقى رعاية طبية بهدوء، من دون أن أضطر للانتقال من حاجز إلى آخر، ومن منطقة إلى أخرى، وسط الخوف والترقّب.

أردت فقط أن أتعالج في أمان.

ولماذا تونس بعد الأردن؟
لأن رسالتي لم تنتهِ بخروجي من السجن. خرجت لأحمل رسالة الأسرى، لأوصل صوت من لا صوت لهم.
وجودي في تونس هو استمرار لهذه الرسالة.
نحن لا نخرج من السجون لنسكت، بل لنكمل الطريق.

حتى ونحن نُباد، لا بد أن يبقى منّا من يحمل الرسالة وينقلها.

كيف كان تأثير سماعكم بخبر صفقات تحرير الأسرى؟

كنا دائمًا نسمع عن احتمالية حدوث صفقة لتحرير الأسرى، وكان ذلك يمنحنا شعورًا بالأمل بأننا سننال الحرية ونفرح. الصفقة الأخيرة أدخلت السرور إلى قلوبنا، لكننا في الوقت نفسه كنا نعاني ألمًا عميقًا بسبب استشهاد بعض الأسرى وفقدان آخرين.

كنا نتمناها فرحة تجمع العائلة، أن نخرج إلى أجواء مليئة بالبهجة والزينة، لكن ما حدث كان العكس تمامًا. شهدنا في القدس والضفة أحداثًا مأساوية، وخاصة في غزة حيث جرت مجازر وانتهاكات صعبة، طالت حتى منازل الفلسطينيين، بمن فيهم بيت عائلتي.

خلال تلك الأيام، تعرض بعض الأسرى المحررين للاعتداء والضرب، وتم نقلي من زنزانة إلى أخرى، من تحقيق إلى آخر، حتى أتيحت لنا فرصة العودة إلى بيوتنا بعد انتظار طويل. كان الضباط يفتحون الزنازين ويُوهموننا بخبر الإفراج، ثم يرسلون أسرى آخرين بدلًا منا، مما أرهق أعصابنا وأضعف معنوياتنا.

في القدس، كانت الشوارع تملأ بصور الأسرى الإسرائيليين المحتجزين لدى حركة حماس، بينما لم نرَ أي احتفال أو فرحة أو حتى إعلان عن الإفراج عنا. حتى عائلاتنا لم تُسمح لها بالاحتفال أو رفع الأعلام، وأُبعد إخوتي وأختي عن مراسم استقبالنا.

عندما دخلت المنزل بعد التحرير، لم أستطع أن أضحك أو أبكي، حتى دموع الفرح لم أستطع أن أذرفها. كانت مشاعر مختلطة، بين ألم ما جرى وفرحة ما تحقق، وهذا ما لا أزال أحمله في قلبي حتى الآن.

هل يساور الأسرى في السجون هاجس النسيان؟ وكيف تتعاملين مع هذا الشعور؟

في الواقع، لا أتجرأ على القول إنني شعرت بهذا الهلع أو الخوف من النسيان داخل السجن. هناك أشخاص في السجون عمالقة بصبرهم، وبقوة تفكيرهم، وبإرادتهم، هؤلاء هم من قد يخافوا فعلاً من أن تُنسى قضيتهم. كثير من الأسماء بالفعل تُنسى أو تُهمش، لكن بالنسبة لي، كنت على يقين أنني لن أنسى.

كان الدعم الذي تلقيته من عائلتي وأهلي هو الأساس، إذ يعتبر وجود التضامن من الأسرة والعائلة هو أهم عوامل البقاء والحياة داخل السجن. إضافة إلى أصدقائي وزملائي الذين عرفت قصتي ووقفوا إلى جانبي، كنت أتابع الشعارات التي تعبر عن التضامن معنا عبر وسائل الإعلام.

أما الأسرى الذين قضوا فترات طويلة، خاصة في فترة الأقصى، فهم يحملون مشاعر مختلفة، إذ أن بعضهم يمر بفترات يأس واعتقاد بأن العمر انتهى، لكنهم ينتظرون الصفقة التي قد تخرجهم. لقد شهدنا عبر تاريخ الأسرى ثلاث صفقات تحرير، مثل صفقة "وفاء الأحرار" والأسرى الذين قضوا عشرين وعشرين عامًا. هؤلاء لهم الحق الأكبر في التعبير عن خوفهم من النسيان، والمقاومة التي يواجهونها.

هذا الشعور بالثقة واليقين بأن المقاومة ستنجز مهمتها مهم جدًا، ويمنح الأسرى والأسرى دعمًا نفسيًا عميقًا. هم يؤمنون أن تحرير الأسرى، مثل تحرير فلسطين والأقصى، قادم لا محالة بإذن الله، ونحن معهم في هذا الطريق، نقدم لهم السند والدعم كما دعمونا.

أما ما يضايقني بشدة، فهو رؤية أشخاص لا يقاومون، أو من يستهينون بمواقف المقاومين داخل السجون، وينتقدونهم، أو يحاولون إثارة الفتنة وتقويض الوحدة الوطنية. هذا الموقف يعادل تجاهل الحقيقة والجهود الحقيقية التي يبذلها الأسرى في سبيل تحرير الوطن والحفاظ على مقدساتنا.

المقاومة في السجون ليست مجرد كلمة، بل موقف وواجب، وكان يجب أن يُقدر هذا الموقف منذ زمن بعيد.

كيف ترين وضع سلاح المقاومة في مواجهة سياسة وقف الإدارة؟ وما موقفك من تبني بعض الأصوات العربية والفلسطينية لهذا المشروع؟

نحن لا نقبل ولا نتبنى مثل هذه المواقف، ولا نستمع إليها. موقفنا واضح وصريح: نحن مع المقاومة بكل ما تمثله من صدّ وصمود، بكل قلوبنا وأرواحنا. المقاومة هي الخط الأساسي في الدفاع عن قضيتنا وحقوقنا.

بالنسبة لسلاح المقاومة، يجب أن نؤكد أن إنهاء الاحتلال والعدوان لا يتم إلا بالمقاومة المسلحة، فهذه حقيقة نعيشها منذ زمن طويل. القتل والعدوان الإسرائيلي المتواصل يفرض علينا حق الدفاع، والقرآن الكريم يذكر مبدأ العين بالعين، ولكن في سياق مختلف، لأن ما نواجهه من احتلال هو إبادة ممنهجة.

إسرائيل انتهجت أساليب عنصرية فوضوية، تفرض الضرائب والغرامات، وتمارس الانتهاكات بشكل ممنهج لا يراعي إنسانية الإنسان الفلسطيني. هذه السياسات لا تقبل إلا بفهم واعٍ وشامل لما يحدث، لنرى الماضي والحاضر والمستقبل بوضوح، ونعرف أن تحرير الأرض لا يأتي إلا بالسلاح وكل أشكال المقاومة.

سؤال: هل تشعرين أنك خرجت من سجن صغير إلى سجن أكبر؟ وكيف كانت تجربتك مع القيود والمعابر في الحياة اليومية؟

بالفعل، أشعر أنني من سجن صغير إلى سجن أكبر. داخل السجن، كل حركة مراقبة، وأي محاولة للخروج من باب إلى آخر تحت عين السجان.

أما خارج السجن، فالقدس نفسها مثل سجن كبير، هناك المعابر، والبوابات، والأسوار العالية التي تفصل بين المناطق، وكأنك محاطة بسجانين لا ترى وجوههم، لكنهم يراقبونك ويحكمون تحركاتك.

هذا هو الواقع الذي نعيشه، والفرق بين السجن الداخلي والسجن الخارجي محدود، فكلاهما قيد وحصار، والتحدي الأكبر أن نحافظ على إرادتنا ونقاوم هذه القيود بكل الوسائل الممكنة.

تم نسخ الرابط